ثقافة التضامن في المغرب.. مظاهر الحضور وأوجه القصور قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى}، وقال موجها خطابه لفاعلي الخير: {...
ثقافة التضامن في المغرب.. مظاهر الحضور وأوجه القصور
قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى}، وقال
موجها خطابه لفاعلي الخير: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا
وأعظم أجرا}، وقال رسول الله[: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل
الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» رواه مسلم.
إنها نصوص غيض من فيض تحث على
فعل الخير وعلى التضامن والتكافل الاجتماعي، وتبشر الحريص على القيام به بأفضل
الجزاء عند الله تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}.
ومظاهر
التكافل والتضامن والتآزر بين الناس في المغرب مثل العديد من البلاد الإسلامية
كثيرة وعديدة، ومن المسلمين فيها من يتسابق لفعل الخير والتضامن مع من هم في حاجة
ماسة لذلك، سواء كانت الحاجة مادية أم السبب آفة اجتماعية أم كارثة طبيعية أم حدثا
أسريا معينا مثل جنازة أم زفاف أيضا.
لكن لا يمكن
إنكار واقع لا يرتفع إلى هذا المستوى؛ حيث أضحت فرص التضامن ومناسبات
التآزر تتضاءل في المجتمع
المغربي شيئا فشيئا لاعتبارات كثيرة منها ما يرتبط بعوامل اقتصادية واجتماعية
ونفسية أيضا.
التضامن في
الأفراح والأتراح
وتتجلى مظاهر التضامن
والتآزر بين أفراد المجتمع خصوصا في المناسبات الأسرية سواء في المدن والحواضر أم
في الأرياف والبوادي، ولاسيما مناسبات الأفراح والأتراح التي تمتلئ بها الحياة اليومية.
ويتميز
المغاربة بكونهم أكثر تضامنا وتكافلا فيما بينهم ولاسيما الفئات
الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة عند مناسبة الزفاف وما تتطلبه من ولائم واستعدادات،
ومناسبة الجنائز وما تستوجبه من تعاز ومتطلبات.
فحين تحدث
وفاة ما مثلا في الأحياء الشعبية في المدن كما بالقرى في المغرب، يستعد سكان الحي ولاسيما الجيران لتجهيز الجنازة والتضامن مع أسرة المتوفى
ماديا ومعنويا؛ فمن حيث الجانب المادي يتكفل الجيران والسكان بنفقات الجنازة
وإطعام المعزين، بل يحرصون على جمع أموال فيما بينهم لمنحها للأرملة التي توفي
زوجها أو للأب الذي توفي ابنه وهكذا.. بغية مساعدتهم على تجاوز المحنة الأليمة،
فتتآلف القلوب وتتراحم الأفئدة تضامنا وتكافلا بين الناس والأهل وفاعلي الخير حتى
لو كانوا من خارج الحي والمدينة.
أما من
الناحية المعنوية، فيكون التضامن بالحضور ومواساة عائلة المتوفى وبالتخفيف عن
مصابها وما ألم بها، فيكف الجيران وسكان الحي عنها انشغالات الجنازة والمعزين وما
يحتاجونه، كما أنهم يحاولون بالكلام الطيب والمعاملة الحسنة الحد من مشاعر
الحزن وتفريج الكرب.
ويكاد الأمر
نفسه يكون في مناسبات الزفاف والأفراح في مختلف المدن والبوادي، حيث يتعاون الناس
لإقامتها ويتضامنون فيما بينهم من أجل إنجاح أية مناسبة زفاف، بل أحيانا
يتكافلون لجمع المال لتزويج من يرونه من الشباب عفيف النفس فقير الحال، فيتم
تزويجهم بتضامن سكان الحي أو القرية، والأجمل أنهم يقومن بذلك بكامل المحبة والصدق
دون رياء ولا مَن ولا أذى.
وتتجلى أبهى
مظاهر التضامن أيضا عند حلول ضيف على منطقة ما ولاسيما لدى أهالي القرى التي ما
تزال تحتفظ بهذه العادة الحميدة؛ حيث يتناوب سكان القرية التي حل بها الضيف على
الترحيب به وإيوائه وإطعامه، كل أسرة تقوم بذلك إلى أن تمر مدة استضافة الضيف،
فيكون هذا الأخير قد حل عند الجميع وليس عند أسرة معينة.. وبذلك يكون التضامن قد
ساعد الأسرة المضيفة الرئيسة على نفقات الضيف وما يتطلبه من كرم وجود عُرف به أهل
البادية والأرياف بالمغرب.
تدبير
التضامن
وغالبا ما
يرتبط التضامن بالمحن والمصائب التي تضع المؤمن على المحك الحقيقي، فتختبر معدنه
وأصله، فإن كان من معدن طيب صاف فسيبادر إلى فعل الخير والدلالة عليه والتضامن مع
المحتاجين للمساعدة؛ تطبيقا لأوامر الله وهدي رسوله الكريم[، لكن إذا كان معدنه
غير ذلك فإنه سيتراجع إلى الوراء ويقف مكتوف اليدين يتفرج وكأنه غير معني تماما
بالذي يحدث لإخوانه، بل لعله لا يتضامن معهم ولو بالكلمة الطيبة أو بالدعاء
الصالح.
ويعتبر
الدكتور محمد بولوز، الباحث في العلوم الشرعية، أنه «خلال فترات المحن والمصائب
تختبر المبادئ والشعارات المرفوعة، وتوضع معاني الأخوة والتضامن على المحك فيظهر
الصادقون من الكاذبين، ويتميز الأوفياء عن المتنكرين البخلاء العاجزين عن فعل
الخير، المتأخرين عن القيام بالواجب».
واستدل
بولوز في شأن المتضررين من الابتلاءات والمصائب والمحن والكوارث وما في حكمها،
بقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِّنَ الأمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا
إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة).
كما قال تعالى
في شأن من كتب لهم العافية مختبرا إيمانهم وشكرهم لما معهم من النعم: {وَأَنفِقُوا
مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه} (سورة الحديد)؛ وقال عز وجل:
{وَأَنفِقُوا مِما رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن
مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المنافقون).
العراقيل
والمثبّطات
وإذا كانت
مظاهر وأمثلة التضامن واضحة جلية في المجتمع المغربي مثل سائر المجتمعات
الإسلامية، لكنها صارت في السنوات القليلة الأخيرة تعرف نوعا من التناقص والفتور
البين لأسباب عديدة تعود أغلبها إلى عوامل اجتماعية ونفسية بالخصوص، لكن أيضا إلى
عوامل موضوعية تحد من حركية المتضامنين وعفوية الأشكال التضامنية.
ويرى الدكتور
عبد الرحيم عنبي، الإخصائي الاجتماعي، أن المجتمع المغربي أضحى يعرف خللا في العلاقات
الاجتماعية بين أفراده، فضلاً عن كون الأسرة الممتدة التي كانت تتشكل من الأبناء
والأب والأم والجد والجدة والعم والخال بدأت تضمحل اضمحلالاً لافتاً في المدن
خاصة، وبالتالي تلك التربية الأسرية التي كانت متوافرة في سنوات خلت، و تعتمد على
إذكاء روح التعاون والتعاطف بين الأبناء وبين الأسرة والواحدة وإزاء باقي أسر الحي
والمنطقة.. إلخ، بدأت تتلاشى بوضوح.
ويؤكد عنبي أن
تحولات عميقة مست المجتمع المغربي من قبيل دخول قيم جديدة للدول والثقافة المهيمنة
من خلال الثورة المعلوماتية والشبكات الفضائية، موضحا أن العلاقات الاجتماعية أضحت
تنبني على النقود وعلى الإنتاج أساسا.
ويستطرد
الباحث الاجتماعي بأن الاستعمار الفرنسي للبلاد أدى دورا كبيرا في بقاء رواسب هذه
العلاقات النفعية التي تهدم شيئا فشيئا الطبيعة التضامنية التي ترسخت في نفوس
المغاربة أبا عن جد، مضيفا أن بروز نخبة جديدة في المجتمع تتبنى نمط عيش حداثيا
ومنهجا غربيا بوصفه أسلوباً في الحياة جعل ثقافة التضامن تعرف نوعا من القصور
والتراخي.
ومن العوامل الأخرى التي تحد من إشعاع
ثقافة التضمن في المجتمع ما يتحدث عنه الدكتور بولوز بخصوص توجس السلطات الأمنية
أحيانا من كل مبادرة «لا تخرج من معطفها ولا تنضج في مطابخها، كما تعرقل تحركات
أهل الخير، وتقوم بالقراءة القبلية للنوايا وسوء الظن بالمقاصد، الأمر الذي يثمر
انسحابا للمواطن من الإسهام في تحمل المسؤولية، وفتورا في الانخراط في القضايا
المجتمعية، واتكالا على المجهودات الرسمية المحدودة».

COMMENTS