الإشكالية الثالثة: فلسفــة العلــــــوم
المشكلة الرابعة: العلوم الإنسانية
والعلوم المعيارية
المقدمة:
طرح المشكلة
إن التقدم والتطور الذي حققته الدراسة التجريبية، وما أحرزته من نجاح في
علوم المادة الجامدة، جعل منها نموذجا لكل معرفة تسعى لتحقيق الدقة والموضوعية،
خاصة بعد اقتحام هذا المنهج التجريبي ميدان البيولوجيا، مما شجع على توسيع نطاق
بحثه، وطرح إمكانية تطبيقه على ميدان آخر، هو عالم الظواهر الإنسانية، فهل هذا
ممكن؟ وما هي حدود ذلك؟
I. التمييز بين العلوم الإنسانية والعلوم المعيارية:
إن العلم التجريبي بكل أصنافه، لا يدرس إلا ما
هو كائن وما هو موجود فعلا، ويمكن فحصه والتأكد منه، وما يترتب على ذلك من نتائج،
من هنا كان لا بد التمييز بين العلوم الإنسانية والعلوم المعيارية.
1. مفهوم العلوم
الإنسانية:
هي العلوم التي تهتم بدراسة الواقع الإنساني وحوادثه المختلفة وعلاقاته واتجاهاته
وما تحمله من أبعاد فردية (علم النفس )، أو أبعاد اجتماعية (علم الاجتماع ) أو أبعاد
تاريخية (علم التاريخ ).
2. مفهوم العلـوم
المعيارية: هي العلوم التي تهتم بوضع المعايير والمقاييس التي تحدد ما يجب أن
يكون عليه التفكير كعلم المنطق، أو السلوك كعلم الأخلاق، أو الذوق الجمالي كعلم
الجمال.
وموضوع
هذه العلوم هو دراسة القيم ووضع المقاييس والقواعد التي تفهم على ضوئها، ففي علم
المنطق ومعياره الحق ويبحث في القواعد التي ينبغي أن يكون عليها التفكير الصحيح،
وفي علم الأخلاق ومعياره الخير يبحث في النموذج المثالي الذي يجب أن يكون عليه
السلوك الإنساني، وعلم الجمال ومعياره الجمال ويبحث في وضع الأسس والمقاييس التي
يمكن التمييز والحكم بها عن الجمال والقبح.
من
هنا يمكن القول أن العلوم الإنسانية والعلوم المعيارية يلتقيان في أن جوهر
موضوعهما واحد هو الإنسان، لكنهما يختلفان كليا من حيث تناول الموضوع وطريقة
دراسته والتعامل المنهجي معه، فالعلوم الإنسانية تدرس ما هو كائن وموجود كواقع
يمكن ملاحظته والتثبت منه بالفعل. أما العلوم المعيارية فتدرس ما يجب أن يكون
وتحديد المعايير المثالية للحكم.
II. طبيعة الموضوع في العلوم الإنسانية وعوائق تطبيق التجربة:
1. طبيعة الظاهرة
الإنسانية:
إن الظاهرة الإنسانية ذات طابع معنوي من الصعب قياسها والتعبير عنها كميا، كم أنها
ذاتية حيث يحكمها قصد هادف واع بأبعاده، وتوجهها قيم ومعايير بالإضافة إلى أنها
ظاهرة لا ثبات ولا استقرار لها لأن التغير صفة ملازمة لوجودها، فهي طبيعيا تنمو
دائما ومعنويا تحمل حرية اختيار ومسؤولية توجيه.
2. عوائق
تطبيق التجربة في العلوم الإنسانية:
أ.
عوائق الحادثة التاريخية: بداية يمكن أن نعرف التاريخ بأنه: «العلم
الذي يدرس الحوادث البشرية الماضية».
لكن الحديث عن علمية التاريخ يقتضي الحديث عن
العوائق والعقبات التي تقف أمام دراسته تجريبيا منها:
ـ إن الحادثة التاريخية
يتعذر ملاحظتها مباشرة، لأنها حوادث ماضية تم وقوعها ولا يمكن تكرارها.
ـ تعذر إجراء وبناء
التجارب على الماضي واستحالة العودة إلى الوقائع نفسها مما يعني انعدام أداة
التحقق والتأكد
من الحوادث.
ـ تجميع وإعادة بناء
الحوادث التاريخية الماضية تخضع لذاتية الباحث واتجاهاته وعقيدته وانتمائه وتأثير
روح عصره
في أحكامه.
ب.
عوائق الظاهرة الاجتماعية: بداية نعرف علم الاجتماع بأنه: « العلم الذي
يدرس الحوادث الاجتماعية » بهدف اكتشاف
القوانين التي تخضع لها حياة المجتمعات، وحياة الأفراد في المجتمع.
ولقد
واجه التجريب في الظاهرة الاجتماعية كثير من العوائق منها:
ـ إن
الظاهرة الاجتماعية ظاهرة مركبة تتداخل فيها أبعاد الإنسان المختلفة النفسية والفكرية
والدينية والسياسية والاقتصادية.
ـ إنها
ظاهرة من الصعب التحكم في المواقف
الاجتماعية والسلوكية التي تشكلها.
ـ كما أن
الظواهر الاجتماعية لا يمكن تناول حقائقها كأشياء يمكن إخضاعها لحتمية ضرورية
واضحة لأنها كيفية تتغير صورها باستمرار.
ـ إن
الظواهر الاجتماعية فردية وفريدة في نوعها وهي ترتبط بزمان ومكان معين وتتحدد
بطبيعة الجماعة.
ـ الظاهرة
الاجتماعية بحثها يدور حول الإنسان والمجتمع وتفسير حقائقها يتأثر حتما بآراء
الباحث لها وأفكاره وإيديولوجيته وربما توجيه تفسيره.
جـ.
عوائق الحادثة النفسية: بداية نعرف علم النفس بأنه: «العلم الذي يدرس
الحوادث النفسية» وهذا للكشف عن قوانينها.
وقد واجهت الدراسة التجريبية للظواهر النفسية
عوائق منها:
ـ إن
الحادثة النفسية معنوية شعورية لا يمكن تحديدها في حيز مكاني معين وهي متغيرة
باستمرار عبر أحوال الشعور.
ـ إنها
حادثة كيفية يمكن وصفها فقط ولا يمكن قياسها والتعبير عنها بلغة الكم والتقدير.
ـ إنها
حادثة حدسية ذاتية لا يمكن أن يعرفها أو يعبر عنها إلا صاحبها مباشرة.
ـ إنها
حادثة فريدة في نوعها متميزة لا تقبل التكرار.
إذن كل هذه العوائق التاريخية والاجتماعية
والنفسية في ميدان العلوم الإنسانية شكلت عقبات معينة في وجه الدراسة التجريبية
والبحث عن العلمية في حقل الظواهر الإنسانية.
فكيف السبيل إلى تجاوزها؟
3.
تجاوز العوائق وإمكانية التجريب في العلوم الإنسانية:
إن تطور المنهج التجريبي وتقنياته وتكييف
خطواته مع طبيعة الموضوعات قد فتح المجال أمام العلوم الإنسانية وقدرتها على
استخدام المنهج التجريبي.
أ.
تجاوز العوائق في التاريخ:
لقد كان العلامة « عبد الرحمان بن خلدون » سباقا
في وضع الأسس المنهجية للدراسة التجريبية للحادثة التاريخية، وتبعه في ذلك علماء
أوروبيين أمثال: « فيكو » الإيطالي و « رينان
» الفرنسي وغيرهم.
ويمكن
تلخيص خطوات المنهج التاريخي فيما يلي:
ـ مرحلة جمع الآثار والمصادر إرادية
كانت أو غير إرادية.
ـ مرحلة تحليل المصادر والتحقق منها
ونقدها نقدا خارجيا أو نقد باطنيا.
ـ مرحلة تركيب الحادثة التاريخية
وإعادة بنائها عن طريق تصنيفها وترتيبها زمنيا.
ـ مرحلة التفسير والكشف عن الأسباب
التي أدت إلى وقوع الحادثة وتبيان قيمتها التاريخية.
ب.
تجاوز العوائق في علم الاجتماع:
إن فهم الظواهر الاجتماعية ودراستها تجريبيا
وتجاوز عقباتها قد ظهرت ملامحها بوضوح مع العلامة ابن خلدون في كتابه « العبر » و
قد سمى هذا النوع من العلم بـ:( العمران البشري).
ثم
جاء الفرنسي (أوجست كونت) زعيم الفلسفة الوضعية الذي أعطى دفعا كبيرا للدراسة
الاجتماعية ويعتبر أول من استخدم كلمة علم الاجتماع، ثم جاء بعد ذلك (إيميل دوركايم ) الذي عمل على فهم الحقيقة
الاجتماعية ودراستها التجريبية، وهذه الدراسة التجريبية لا تكون إلا بتحديد
الظاهرة الاجتماعية والعوامل التي تتحكم فيها وهذا ما شرحه دوركايم في كتابه (قواعد
المنهج في علم الاجتماع).
ـ إن الظاهرة الاجتماعية تلقائية لم
يخلقها الفرد بل يولد الفرد ويجد مجتمعا كاملا أمامه، وعليه أن يخضع
لنظمه الخاصة.
ـ إنها ظاهرة (جبرية قاهرة) ملزمة
للأفراد والجماعات على السواء ومن ينحرف بسلوكه عنها يتعرض للجزاء.
ـ إنها تتصف بالعمومية
أي عامة توجد في كل أبعاد المجتمع وتواجده وهذا ما يمكن من اكتشاف الحقائق العامة.
ـ إنها ظواهر مستقلة عن
الأفراد بحيث يمكن ملاحظتها منفصلة عن الحياة الخاصة للفرد لأنها جماعية ومن هنا
يمكن دراستها دراسة موضوعية على أنها
أشياء.
وانطلاقا من هذا التحديد يمكن التعامل مع
الظاهرة الاجتماعية كظاهرة قابلة للدراسة التجريبية يمكن ملاحظتها ووضع الفروض
والتأكد بالتجربة كحسم للنتيجة والوصول إلى صياغة القوانين.
جـ.
تجاوز العوائق في علم النفس:
يعتبر علم النفس من أواخر العلوم التي استقلت
عن الفلسفة حيث أصبح مستقل بموضوعه ويمكن دراسته بمقاييس تجريبية تتجاوز العوائق
النفسية.
وقد كانت البداية الحقيقة لهذا التأسيس
مع أعمال رواد علم النفس الحديث ومن أشهرهم (فيخنر) و ( ووندت) وهذا الأخير كان له في إنشاء
أول ( مخبر تجريبي لعلم النفس ) في ألمانيا لكن ووندت كان يعتقد أن المنهج
التجريبي لا يمكن أن يكون منهجا لدراسة جميع مواضيع علم النفس إلا أنه كان يؤكد
بالرغم من ذلك بإمكانية دراسة المواضيع النفسية دراسة موضوعية.
وقد أعطى (جون واطسن) دفعا قويا لهذه
النظرة السلوكية التي تهتم بفهم النفس الإنسانية انطلاقا من دراسة الأفعال السلوكية
التي يقوم بها الإنسان كاستجابات لمؤثرات ومنبهات بيئية، وقد استفاد ( واطسن) من
تجارب ( بافلوف) وجعلها مفتاحا للدراسة المخبرية
والمعالجة الإحصائية للبيانات واستعمال الأجهزة الكهربائية لدراسة المنبهات في
التأثير على سلوك الإنسان، يقول (جون واطسن): « إن علم النفس كما يرى السلوكي فرع
موضوعي وتجريبي محض من فروع العلوم الطبيعية هدفه النظري التنبؤ عن السلوك
وضبطه... ويبدو أن الوقت قد حان ليتخلص علم النفس من كل إشارة إلى الشعور ».
III. قيمة العلوم الإنسانية وعدم دقة النتائج:
- عدم
دقة النتائج وقصورها: لقد بقت النتائج المتوصل إليها في
العلوم الإنسانية بعيدة عن الدقة والضبط والموضوعية.
ـ إن النتائج في العلوم
الإنسانية ومهما فيل عنها فإنها لا تزال تعاني من التحيز وتأثير الذات الباحثة
عليها ومن
هنا
لم تصل إلى تحقيق مبدأ فصل الذات العارفة عن الموضوع المدروس.
ـ إن النتائج المتوصل
إليها في حقل العلوم الإنسانية تعاني كلها من اختلاف النتائج وتعدد القوانين وهذا
ما تبلور
في
تعدد التفاسير لظاهرة واحدة وتعدد المناهج.
ـ إن القوانين في العلوم
الإنسانية مرتبطة بإرادة الإنسان وهي إرادة متغيرة وبالتالي فالنتائج تبقى
احتمالية
وتقريبية.
ـ إن اللغة التي
تستخدمها العلوم الإنسانية للتعبير عن نتائجها هي لغة وصفية كيفية تفتقد إلى الدقة
ويصعب
الاتفاق
عليها، ومن هنا تغيب لغة الكم والتقدير وهذا ما يؤدي إلى فقدان مصداقية النتائج
وعلميتها.
لكن مع كل هذه النقائص والعيوب في النتائج التي
حتمتها طبيعة الموضوع وتعقده، تبقى العلوم الإنسانية لها قيمتها وفائدتها.
- قيمة
العلوم الإنسانية وفائدتها:
إن طبيعة ومسائل العلو م الإنسانية مكنت
الباحثين في هذه الميادين إلى تنويع أساليب البحث والدراسة فيها وأبدعوا مناهج
تتشابه مع بعض المناهج في العلوم التجريبية، والتزموا من ناحية أخرى ببعض أساليب
البحث التي تتلاءم وتنسجم مع طبيعة موضوعاتهم.
أ. الفائدة في علم التاريخ:
ـ إنه يعطي
للإنسان هويته ويعرفه بمقوماته وجذوره وأصوله وأبعاد هويته لأن الأمة التي ليس لها
تاريخ أمة بلا
جذور.
ـ إنه يجعل
من المعرفة التاريخية أرقى وسائل التكوين الثقافي والتوعية واستخلاص العبر واعتماد
الحكمة في النظر إلى
المستقبل وعدم تكرار عثرات الماضين.
ـ
من خلال التاريخ نتعرف على طبيعة الحراك الإنساني وصيرورة
الأحداث وتقلب الظروف والأحوال في شكل
أدوار وجب احترامها ومعرفة قوانينها.
ـ من خلاله
نعرف طرق التحضر والاستقرار، وأسباب النزاع والصراع وفنون السياسة والحروب
والصنائع وعوامل
الزوال والانحلال.
ـ التمكين
من فضاءات التحرر ورسم معالم المستقبل وحدود المصير المشترك مع الغير.
ب.
الفائدة في علم الاجتماع:
ـ إنه يساعدنا في فهم
الظواهر الاجتماعية والاطلاع على كيفية بناء العلاقات الاجتماعية وتفاعلاتها المختلفة
في
محيطها ووسائل قياسها والتحكم فيها.
ـ إنه يمكننا من تصنيف
الجماعات ووظائفها وخصائصها في إطار وعي الذات الاجتماعية كأجزاء متكاملة
متصلة تترابط قيميا ويوجهها تنظيم العمل
وأبعاد التضامن.
ـ من خلاله
نتعرف على طبيعة المجتمعات الديناميكية والمجتمعات الاستيتيكية وجوهر الاختلاف
بينهما،
وعوامل التطور والتحضر، وأسباب التخلف
والصراع.
ـ من خلاله نرتقي بمستوى الوعي
الاجتماعي وتهذيب الثقافة الاجتماعية والتعايش السلمي وإدراك الخصوصية
الثقافية وقيمة الانتماء، وحدود
العلاقات الاجتماعية، وقيمتها، وإلزاميتها.
جـ.
الفائدة في علم النفس:
ـ يخدمنا تعدد المناهج في علم النفس
في التعرف على ميادين التعامل النفسي وفهم دوافع الكائن الحي عموما
والإنسان خصوصا.
ـ من خلال علم النفس يمكن للإنسان
التعرف على نفسه وما يجري فيها والكشف عن خلفياتها قصد التحكم
فيها ومراقبتها وطرق التعامل مع الغير
واحترام ذاته وتفسير ردود أفعالها.
ـ من خلال علم النفس
يمكن استنباط العلاقات الضرورية بين الظواهر النفسية وتوظيفها لخدمة الإنسان من
جهة
التهذيب أو الوقاية أو مجالات علاجية...
الخاتمة: حل
المشكلة
قيمة العلوم الإنسانية لا يمكن إنكارها مهما
كانت نتائجها نسبية، ودراستها تخضع لكثير من العوائق، لذلك يبقى هدفها الذي قامت
من أجله دافعا للاجتهاد في البحث والإبداع في الطرق والمناهج التي تدرس بها
الظواهر الإنسانية والسعي لبلوغ الدقة والتنبؤ كما هو الحال في العلوم الطبيعية.
0 Comments :
Post a Comment