الاستنساخ البشري
ما هو الاستنساخ البشري :
يتم في
عملية الاستنساخ البشري نزع نَوَاة خَليَّة جنسية ، ومن ثم نزع نواة من خَليَّة
أخرى مولِّدة - خلايا خاصة موجودة في جسم الإنسان البالغ - ، ووضعها بدل النواة
المنزوعة من الخلية الجنسية .
ومن ثم
صدمها بتيار كهربائي بحيث تبدأ الخلية بالانقسام ، وبالتالي تزرع الخلية الشارعة
بالانقسام في رحم امرأة ، حتى تكوِّنَ جنيناً طبيعياً يفترض أن يولد بشكل طبيعي ،
أو يُستَخدم للحصول على أعضاء في مرحلة أسبق .
إن التشابه
بين المُستنسَخ والمُستنسَخ عنه - صاحب الخلية المولِّدة - تشابه مطلق من حيث
التركيبة الجينيَّة - الصفات الوراثية - ، وبالتالي كل ما يتبعها من صفات شكلية ،
وإمكانيات دماغية ، وإلخ .
ردود فعل :
تصدرت هذه
العبارة : الاستنساخ البشري ، العناوين الرئيسية لكل مجلاَّت وصحف العالم ، ولم
يسلم منها لسان أي شخص ، ولعبت دوراً عجيباً في تشغيل عقول العالم ، وبخاصة
المفكّرين والباحثين منه .
فمع أن
عصرنا هو عصر الصراعات ، لكن هذا الحدث كان أعلى صرخَة دوّت في أرجاء المعمورة ،
طاغياً على كل حدث .
وذلك منذ
سنة ( 1996 م ) ، عندما نجح العالم ( أيان ويلمون ) في استنساخ كائن حي ، بطريقة
غريبة ومختلفة عن الطريقة الطبيعية للتكاثر الجنسي .
ومن تلك
السنة لحد الآن يطوّر العلماء أبحاثهم ، ويعلنوا من فترة لأخرى إنهم توصلوا لأمور
جديدة في تطوير هذه العملية .
وبدت
تصريحات البعض منهم تَعلِن وتَدقُّ ناقوس الخطر على ما سمي بـ( حُرمَة الحياة
وقُدسيَّتِها ) .
وبدا العالم
يبيت في قلق واضطراب ، فتضاربت الآراء بين مؤيد ومعارض ، الذي أدَّى في الأيام
الأخيرة إلى خطوات جادّة من قبل حكومات العالم ، فالكثير منها لم يمنع هذه الأبحاث
في بلاده فحسب .
بل طالب
مجلس الأمن وهيئاته المتخصِّصة بالتقصي في الأمر بفرض عقوبات على الأطباء الذين
يبغون قدماً لتحقيق أحلامهم ، والمطالبة بمعاقبتهم وأمثالهم أمام المحاكم الدولية .
ففي أمريكا
منعت هذه الأبحاث بِشِدَّة ، وكذلك أعلن البرلمان الألماني والكندي والفرنسي ،
والكثير من الدول الأوروبية عن قلقهم من خطورة هذه الأبحاث .
واعتبروا
استنساخ الأجنة البشرية أمراً غير أخلاقياً ، يؤدي إلى مشاكل لا يمكن التكهُّن
بِمَدى ضررها وتأثيرها على مراحل الحياة .
هذا من جانب
، ومن جانبٍ آخر سُمح للعلماء والباحثين ووفق مراقبة أمنية بإجراء هذه العملية في
مراحلها الأولى ، وذلك للاستفادة من خلايا المنشأ في مراحل التكوين للخلايا
المستنسخة .
والخلاصة :
أنهم منعوا استنساخ الأجنة البشرية للتكاثر ، ولكنهم سمحوا به للإفادة من خلايا
المنشأ ، وذلك للعلاج الطبي وإيجاد أعضاء بديلة .
الإنسان وحُبّ الاستطلاع :
إن الله
سبحانه هو الذي أبدَع الكون ، وخلق الإنسان بخلاف المخلوقات الأخرى ، وميَّزه
بقدرته على الإبداع والاختراع ، لذلك نجد الإنسان وفي حقب تاريخية كيف يتطور
وينتقل في مسيرة الحياة من مرحلة إلى أخرى .
وقد لا يكون
هذا التطوّر أو التغير شيئاً جيداً بِحدِّ ذاته ، وذلك لأن الطبيعة البشرية الشريرة
متأصِّلة في داخله ، ولكن هذه النقلات كان لا بُدَّ منها في مسيرته ، لأن طبعه
الطموح ، وروحه المتأملة ، تفتح له الطرق قبل أن يكون حتى له المقدرة على تحقيق
الهدف .
فكل هذه
التقنيات العلمية ، وهذا التقدم الصناعي ، وهذه النهضة الفكرية ، لم تأتي
بِلَمحَةِ بصر ، بل أخذت وقتاً طويلاً ليكون الإنسان ما هو عليه الآن .
وفي الحقيقة
يوجد في الإنسان عَطَشٌ يَحثّه دائماً على تقصّي الحقيقة ، والوصول إلى المعرفة ،
وكأنه يسأل دائماً عن كيفية وجوده ، وذلك من خلال اكتشافه لمحيطه .
فيوماً بعد
يوم يحاول أن يحل هذه اللغز ، ويفكّ عقد هذا السر العظيم ، وهو سِرّ الحياة ،
سابحاً في محيط هذا العالم ، لعلَّه يصل إلى قراره ونهايته .
وفي رأينا
أن هذه الأبحاث ليست إلا نتيجة هذا الاشتياق الذي في قلب الإنسان ، وهو ( حُبّ
المعرفة ) .
ونذكر نقطة
أخرى بالنسبة إلى كل الاختراعات والاكتشافات العلمية ، في أنها دائماً تكون واقعة
على حَد الفصلين .
فالعلم
دائماً له منفعة عظيمة إذا استخدم لأجل المنفعة العامّة ، وله أيضاً الأثر
المدمِّر إذا استخدم لأجل المقاصد والمصالح الشخصية .
والأمر
متوقّف على إنسانية وأخلاق المسؤول والمسيطر على العمل والبحث ، ولكن على أي حال
العجلة تدور ، والله ناظر لما يحدث .
ونقطة أخرى
مهمة عن موقفنا من هذه الاكتشافات التي نراها ونسمعها بين الفترة والأخرى ، فإذا
منعناها وشجبناها فعلينا أن ننظر إلى الوراء ، وإلى ما اقترفته عجلة التطوّر من
دمار وفساد على البيئة كلّها .
فهذا التطور
كان له ثمناً ، ولكن ثمنه كان غالياً بعض الشيء في بعض الأحيان ، فمنع الاستنساخ -
وهو موضوع تساؤلنا اليوم - ليس الجريمة العظمى ، بل إنه قد يكون شوكة غرست في جسم
الإنسانية ، بعد أن كان جسدها قد تفشّى بالمرض الخبيث .
وإذا كانت
الليالي في الأزمنة الماضية تلد العجائب ، فهي في زماننا أكثر وأسرع ولادة لكل
عجيب وغريب ، مما لم يخطر ببال الإنسان ، ولم يحلم به مجرد حلم في العصور السالفة .
وذلك بفضل
تقدم العلم الذي علَّمه الله للإنسان : ( عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) العلق : 5 .
حتى أضحى
الإنسان يشق أغوار الفضاء ، وينزل على سطح القمر ، ويطمح للوصول إلى الكواكب
الأبعد .
ولقد قدّر
لنا أن نشهد كثيراً من العجائب في حياتنا ، ابتداء من المذياع والتلفاز ، ثم
الكومبيوتر وغزو الفضاء ، وانتهاءً بـ( الإنترنت ) ، ومرورًا بالثورة البيولوجية
الهائلة - ثورة الهندسة الوراثية - ، التي جريت بتوسع في عالم النبات ، ثم بقدر
أضيق في عالم الحيوان ، ثم دخلت عالم الإنسان .
ولقد أصبح
الكثير ممّن يتخوّفون من وَثَبات العلم ، إذا انطلق وحده بمعزل عن الإيمان
والأخلاق ، فقد يعود العلم عندئذ خطراً على الإنسان ، بدلاً من أن يكون نعمة له .
ومنذ سنوات
عقدت في جامعة قطر ندوة علمية كان موضوعها : الهندسة الوراثية وموقف الدين
والأخلاق والقانون منها .
وانتهت
الندوة بعدد من التوصيات دارت حول التحذير من انطلاق العلم بعيداً عن قِيَم الدين
، والأخلاق ، ورعاية المصلحة للبشر ، واتخاذه أداة لسيطرة بعض الناس على بعض ،
والعبث بفطرة الله التي فطر الناس عليها ، ومحاولة تغيير خلق الله ، وهو من عمل
الشيطان .
هل عملية الاستنساخ تؤدي إلى قتل الأَجِنَّة ؟
هذا السؤال
مهم وخطير جداً ، والذي يحدث في الأوساط الدينية من سوء فهم لكثير من الأمور
العلمية ناتج عن عدم إدراكهم الكامل لحجم الموضوع .
ففي مثل هذه
الحالة يعتبرون الخلايا التي تحدث عليها التجارب من أنها كائنات بشرية ، يقوم
العلماء بقتلها .
وهنا برأينا
يكون رد العلماء والأطباء هو الأدَقّ والأقرب إلى الحقيقة من الآراء في الأوساط
الدينية المحافظة ، وذلك نتيجة تفهمهم لهذه الحالة أفضل من غير المتخصّصين في مجال
الطب .
فالأطباء
والباحثون يؤكّدون وبشدة أنهم لا يقومون ولا حتى يفكّرون باستنساخ كائن بشري ،
وذلك لأسباب طبِّية بَحْتَة .
ومنها تلك
التشوهات التي تطرأ على الجنين ، ولكنهم يقومون بالاستنساخ لاستخلاص الخلايا
الجذعية في مراحل انقسام الخَليَّة الأولى ، وذلك قبل أن تخصَّص وتصبح جنيناً .
فأغلب
الديانات ترى أن الجنين يبدأ من نقطة التقاء النطفة مع البويضة ، وبِلُغَة علم
الأحياء يُكِّونُون ( 46 ) صبغة وراثية .
أما الذي
يحصل في الاستنساخ فهذه الـ( 46 ) صبغة تأتي من طرف واحد ، وليس من طرفين ، فالذي
يحدث بعبارة أخرى هو : ( تكاثر خلايا ) ليس إلا ، ولا نستطيع أن نقول عنه : جنين ،
أو : كائن بشري حقيقي .
موقف الإسلام :
ومن أجل ذلك
تساءل الناس في عالمنا الإسلامي عن موقفنا - نحن المسلمين - ، وبعبارة أدَقّ : عن
موقف ديننا وشريعتنا من هذا الأمر الجديد ، أتجيزه شريعتنا بإطلاق ؟ أم تمنعه
وتحرّمه بإطلاق ؟ أم تجيزه ببعض الضوابط والقيود ؟
ونودّ أن
نجيب هنا بـ: أن الإسلام يرحِّب عموماً بالعلم والبحث العلمي ، ويرى من فروض الكفاية
على الأمّة المسلمة أن تتفوّق في كل مجال من مجالات العلم الذي تحتاج إليها الأمّة
في دينها أو دنياها .
بحيث تتكامل
فيما بينها ، وتكتفي اكتفاءً ذاتياً في كل فرع من فروع العلم وتطبيقاته ، وفي كل
تخصص من التخصصات ، حتى لا تكون الأمّة عالة على غيرها .
ولكن العِلم
في الإسلام مَثَلُه مَثَل العَمل ، والاقتصاد ، والسياسة ، والحرب ، كلّها يجب أن
تتقيَّد بِقِيَم الدين والأخلاق .
ولا يقبل
الإسلام فكرة الفصل بين هذه الأمور وبين الدين والأخلاق ، كأن يقول قائلون : دعوا
العلم حُرّاً ، ودعوا الاقتصاد حُرّاً ، ودعوا السياسة حُرّةً ، ودعوا الحرب
حُرّةً ، ولا تُدخِلوا الدين أو الأخلاق في هذه الأمور ، فتضيقوا عليها ، وتمنعوها
من النّمو ، والانطلاق ، وسرعة الحركة .
لكن الإسلام
يرفض هذه النظرة التي أفسدت العلم والاقتصاد والسياسة ، ويرى أن كل شيء في الحياة
يجب أن يخضع لتوجيه الدين وكلمته ، فكلمته هي كلمة الله ، وَ : ( َكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا) التوبة : 40 .
ومن المنطقي
أن تخضع كلمة الإنسان المخلوق لكلمة الله الخالق سبحانه ، وكلمة الله هي أبداً
كلمة الحق ، والخير ، والعدل ، والجمال .
أما عن
الاستنساخ في عالم الحيوان والنبات ، فهو جائز بشروط :
الأول :
أن يكون في
ذلك مصلحة حقيقية للبشر ، لا مجرَّد مصلحة متوهَّمة لبعض الناس .
الثاني :
ألا يكون
هناك مفسدة أو مضرَّة أكبر من هذه المصلحة ، فقد ثبت للناس الآن - ولأهل العلم
خاصة - أن النباتات المعالجة بالوراثة ضررُها أكبر من نفعها ، وانطلقت صَيحات
التحذير منها في أرجاء العالم .
الثالث :
ألا يكون في
ذلك إيذاء أو إضراراً بالحيوان ذاته ، ولو على المدى الطويل ، فإن إيذاء هذه المخلوقات
العجماوات حَرام في دين الله .
وأما عن
الاستنساخ في مجال البشر ، فهو غير جائز إذا كان على طريقة الاستنساخ الذي أجري
على النعجة ( دوللي ) ، التي أجريَتْ عليها التجارب في بريطانيا .
بحيث يمكننا
أن نستنسخ من الشخص الواحد عشرات أو مئات مثله ، بدون حاجة إلى أبوين ، ولا زواج ،
ولا أسرة ، بل يكفينا أحد الجنسين من الذكور أو الإناث ، باستغنائنا عن الجنس
الآخر .
وبهذا
تستطيع البشرية أن تستنسخ من الأشخاص الأذكياء عقلاً ، والأقوياء جسماً ، والأصحاء
نفساً ، ما شاءت من الأعداد ، وتتخلَّص من الأغبياء ، والضعفاء ، والمهازيل من
البشر .
وهنا نقول : إن منطق
الشرع الإسلامي - بنصوصه المطلقة ، وقواعده الكلية ، ومقاصده العامة - يمنع دخول
هذا الاستنساخ في عالم البشر ، لما يترتَّب عليه من المفاسد الآتية :
الأولى : الاستنساخ ينافي التنوع :
إن الله خلق
هذا الكون على قاعدة ( التَنوُّع ) ، ولهذا نجد هذه العبارة ترد في القرآن كثيراً .
فقال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ) فاطر : 27 .
وقال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) فاطر : 28 .
فاختلاف
الألوان تعبير عن ظاهرة ( التنَوّع ) .
والاستنساخ
يناقض التنوّع ، لأنه يقوم على تخليق نسخة مكرّرة من الشخص الواحد ، وهذا يترتب
عليه مفاسد كثيرة في الحياة البشرية والاجتماعية ، بعضها ندركه ، وبعضها قد لا
ندركه إلا بعد حين .
تصوَّروا
صفّاً من التلاميذ المستنسَخين ، كيف يُميِّز المعلِّم بين بعضٍ وبعض ؟ وكيف يعرف
زيداً من عمروٍ من بَكرٍ ؟ .
وكيف يعرف
المحقق من ارتكب جرماً من غيره ، والوجوه واحدة ، والقامات واحدة ، والبصمات واحدة
؟ .
بل كيف يعرف
الرجل زوجته من غيرها ، والأخرى نسخةٌ مطابقة لها ؟ وكيف تعرف المرأة زوجها من
غيره ، وغيره صورة منه ؟
إن الحياة
كلّها ستضطرب وتفسد إذا انتفت ظاهرة التنوّع واختلاف الألوان ، الذي خلق اللهُ
عليه الناس .
الثانية : علاقة المُستنسَخ بالمستنسَخ عنه :
ثم هناك
سؤال مُحيِّر عن علاقة الشخص المستنسخ بالشخص المستنسخ عنه ، هل هو نفس الشخص ؟
باعتباره نسخة مطابقة منه ؟ أو هو أبوه ؟ أو أخ توأم له ؟ فهذه قضية مُربِكة ، وهي
مشكلة حقاً .
ولا شك أن
هذا الشخص غير الآخر ، فهو - وإن كان يحمل كل صفاته الجسمية والعقلية والنفسية -
ليس هو الآخر ، فهو بعدُه بزمنٍ قطعاً ، وقد يحمل كل صفاته ، لكن تؤثّر البيئة
والتربية في سلوكه ومعارفه ، فهذه أمور مكتسَبة ، ولا تكفي فيها العوامل الوراثية
وحدها .
قد يقول
البعض بِبُنُوَّتِه ، لأنه جزء منه ، وهذا مقبولٌ فيما إذا وُضِع في رَحم المرأة
وحملته وولدته ، كما قال تعالى : ( إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ) المجادلة : 2 .
ومعنى هذا
أن يكون له أم ، ولا أب له .
وقد يقول
آخر : إنه أخٌ توأم للمستنسخ عنه ، أي : بمثابة التوأمين المخلوقين من بويضة واحدة .
ولكن
الأخوَّة فرع عن الأبوَّة والأمومة ، فكيف ينبت الفرع ولم ينبت الأصل ؟ .
وهذا كلّه
يوجب علينا أن ننكِر العملية من أصلها ، لما يترتَّب عليها من مفاسد وآثام ، ظهر بعضها
، وبقى كثير منها في رحم الزمان .
الثالثة : مَفاسد أخرى محتَمَلة :
ثم إن
الاستنساخ يعرض القطيع المستنسخ للعدو السريع ، وربما للهلاك السريع ، إذا أصيب
واحد منهم بِمرضٍ ، فسرعان ما يصاب مجموع المستنسخين بهذا الداء .
وقد يقضي
عليهم مرة واحدة ، لأن مجموعهم - وإن كانوا كثرة في العدد – هم بمثابة شخص واحد .
ومن ناحية
أخرى لا يؤمَن أن يستخدم الاستنساخ في الشر ، كما استخدمت الأسلحة الذرية وغيرها
في التدمير ، وإهلاك الحرث والنسل .
فما الذي
يضمن لنا ألا تأتي بعض القوى الكبرى أو من يقلِّدها ، فتستنسخ جيشاً من الأقوياء
والعمالقة لتهزم به الآخرين ؟ .
وما الذي
يضمن لنا أن تأتي بعض هذه القوى الكبرى ، وتستخدم نفوذها لمنع الآخرين من هذا
الاستنساخ ، وتحرِّمه عليهم ، في حين تُحلّه لنفسها ، كما فعلوا في الأسلحة الذرية
؟ .
هذا
بالإضافة إلى أن الاستنساخ بالصورة التي قرأناها وشرحها المختصون تنافي ظاهرة
الازدواج ، أو سُنَّة الزوجية ، في هذا الكون الذي نعيش فيه .
فالناس
خلقهم الله أزواجاً من ذكر وأنثى ، وكذلك الحيوانات ، والطيور ، والزواحف ،
والحشرات ، بل كذلك النباتات كلّها .
هذا
بالإضافة إلى أن العلم الحديث كشف لنا أن الازدواج قائم في عالم الجمادات كذلك ،
كما نرى في الكهرباء .
بل إن
الذَّرَّة - وهي وحدة البناء الكوني كلّه - تقوم على ( إلكترون ) و( بروتون ) ، أي
شحنة كهربائية موجبة ، وأخرى سالبة ، ثم ( النواة ) ، والقرآن الكريم يشير إلى هذه
الظاهرة ، فنذكر قوله : ( وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ) النبأ : 8 .
وقوله تعالى : ( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ) النجم : 45
– 46 .
وقوله تعالى : ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ) يس : 36 .
وقوله تعالى : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الذاريات :
49 .
ولكن
الاستنساخ يقوم على الاستغناء عن أحد الجنسين ، والاكتفاء بجنس واحد ، حتى قالت
إحدى النساء الأمريكيات : سيكون هذا الكوكب بعد ذلك للنساء وحدهن .
وهذا ضد
الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وليس هذا في مصلحة الإنسان بحال من الأحوال .
فالإنسان
بفطرته محتاج إلى الجنس الآخر ، ليس لمجرد النسل ، بل ليكمل كل منهما الآخر ، كما
قال تعالى : ( بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) النساء : 25 .
وليستمتع كل
منهما بالآخر ، كما قال تعالى في تصوير العلاقة الزوجية : ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ) البقرة :
187 .
ولهذا حينما
خلق الله آدم وأسكنه الجنة ، لم يُبقِه وحده ، ولو كان في الجنة ، بل خلق له من
نفسه زوجاً ليسكن إليها كما تسكن إليه ، وقال له : ( اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) البقرة : 35 .
وإذا كان كل
من الرجل والمرأة في حاجة إلى صاحبه ليسكن إليه ، وتقوم بينهما المودة والرحمة ،
فإنَّ ذريتهما أشد ما تكون حاجة إليهما .
فإن الذرية
تكون بحاجة ماسَّة إلى جَوِّ الأسرة ، وإلى الأمومة الحانية ، وإلى الأبوة الراعية
، وإلى تعلم الفضائل من الأسرة ، وفضائل المعاشرة بالمعروف ، والتفاهم والتناصح
والتباذل ، والتعاون على البر والتقوى .
وقد عَلِم
الناس أن أطول الطفولات عمراً هي الطفولة البشرية التي تمتد لسنوات ، يكون الطفل
فيها في حاجة إلى أبويه ، وإلى أسرته ، ماديّاً وأدبيّاً .
ولا تتم
تربية الطفل تربية سَويَّة مكتملة إلا في ظِلِّ أبوين يُحبَّانه ويُحنَّان عليه ،
وينفقان الغالي والرخيص حتى يكتمل نموه ، وهما في غاية السعادة بما يبذلان لأولادهما
، دون منٍّ ولا أذى .
والاستنساخ
لا يحقّق سَكن كل من الزوجين إلى الآخر ، كما لا يحقق الأسرة التي يحتاج الطفل
البشري إلى العيش في ظلالها وحماها ، واكتمال نموِّه تحت رعايتها ومسؤوليتها .
فكل من الأب
والأم راعٍ في الأسرة ، ومسؤول عن رعيته .
استخدام الاستنساخ في العلاج :
يأتي هنا
أمر يسأل الناس عنه ، وهو : مدى جواز إمكان عملية الاستنساخ في العلاج لبعض
الأمراض ؟
ولا ندري
المقصود من هذا بالضبط ، فإن كان المقصود استنساخ إنسان أو طفل ، أو حتى جنين
لتؤخذ فيه قطع غيار سليمة ، تعطى لإنسان مريض ، فهذا لا يجوز بحال .
وذلك لأنه
مخلوق اكتسب الحياة الإنسانية - ولو بالاستنساخ - ، فلا يجوز العبث بأجزائه ولا
بأعضائه ، ولو كان في المرحلة الجنينية ، لأنه قد أصبحت له حرمة الإنسان الطبيعي .
ولكن إذا
أمكن استنساخ أعضاء معينة من الجسم ، مثل القلب أو الكبد أو الكلية ، أو غيرها ،
ليستفاد منها في علاج آخرين محتاجين إليها ، فهذا ما يرحِّب به الدين ، ويثيب عليه
الله تبارك وتعالى ، لما مِنه من منفعة للناس ، دون إضرار بأحد ، أو اعتداء على
حرمة أحد .
فكل استخدام
من هذا القبيل فهو مشروع ، بل مطلوب طلب استحباب ، وربما طلب إيجاب في بعض الأحيان
، بقدر الحاجة إليه ، والقدرة عليه .
ملاحظتان مهمتان :
ونحب أن
ننوِّه هنا إلى ملاحظتين مهمتين حول قضية الاستنساخ :
الأولى :
إن
الاستنساخ ليس كما يتصوّره أو يتوهَّمه بعض الناس : خَلقًا للحياة ، إنما هو :
استخدام للحياة التي خلقها الله تبارك وتعالى .
فالبُوَيضة
التي نزعت منها نواتها من خلق الله تعالى ، والخليَّة الحيَّة التي غرست في
البويضة بدل النواة من خلق الله تعالى ، وكلتاهما تعمل في محيطها وفق سنن الله
تعالى ، التي أقام عليها هذا العالم .
الثانية :
إن فكرة
الاستنساخ أفادت الدين في تقريب عقيدة أساسية من عقائد الدين ، وهي عقيدة البعث ،
وإحياء الناس بعد موتهم لحسابهم وجزائهم في الآخرة .
فقد كان
المشركون قديماً ، والماديّون إلى اليوم ، يستبعدون فكرة البعث بعد الموت ، وأن
يعود الإنسان نفسه إلى الحياة مرّة أخرى .
وقد قرَّبت
ظاهرة الاستنساخ الأمر ، أنه بواسطة بويضة وخلية يعود الإنسان نفسه بصورة جديدة
إلى الحياة .
فإذا كان
هذا أمراً قدر عليه الإنسان ، أفيُستَبعَد على قدرة الله أن تعيد الإنسان مرّة
أخرى إلى الحياة بما نعلمه وما لا نعلمه ؟
قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) الروم : 27 .
آراء مجموعة من علماء الشيعة بالاستنساخ البشري :
أولاً : رأي سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني
السيستاني ( دام ظله ) :
نستعرض فيما
يأتي مجموعة أسئلة وُجِّهت إلى سماحته حول هذا الموضوع :
السؤال
الأول : هل الاستنساخ البشري محرم أم لا ؟
الجواب : إن التسبب
في تكوّن إنسان من بويضة امرأة بعد نزع نواتها ، ثم تطعيمها بخلية غير جنسية ، ثم
إعادة زرعها في الرحم ، وإن لم يكن حراماً في حَدِّ ذاته ، إلا أنه بالنظر إلى
المخاطر المحتملة لمثل هذه العمليات يمكن لمن له الولاية الشرعية النهي عن إجرائها
، فلا تجوز عندئذ .
السؤال
الثاني : حالياً ندرس في المدرسة دروس حول نقل وغرس الأعضاء
البشرية : ( زينو ترانس پلانتس xeno transplants ) فهل يجوز
ذلك للمسلم ؟
وهذا يعني
أن المريض الفاقد للعضو لا يحتاج إلى إهداء الآخرين له عضو إنساني ، أو ينتظر
للحصول عليه ، بل يمكن الحصول عليه من الخنازير لوجود أعضاء متشابهة .
فهل يوجد في
القرآن آية تسمح ذلك ، أو يسمح بأخذها من الحيوانات ؟
الجواب : لا بأس
بالترقيع بعضو من أعضاء بدن حيوان نجس العين كالكلب والخنزير ، وتترتب عليه أحكام
بدن الإنسان ، وتجوز الصلاة فيه باعتبار طهارته بصيرورته جزءاً من بدن الحي بحلول
الحياة فيه .
ثانياً : رأي آية الله العظمى السيد صادق الروحاني ( دام
ظله ) :
يقول سماحته
: نفس الاستنساخ الذي يحصل علمياً ليس فيه محذور شرعي ، ولكن لا بُدَّ من لِحاظ
العناوين الأخرى التي تنطبق على هذا العمل .
فإن كانت
ضمن الضوابط الشرعية - سواء من ناحية الوسيلة أو الهدف - فتكون شرعية ، وإن لم تكن
كذلك فيُحكم بالحرمة على طبق العناوين الثانوية .
ثالثاً : رأي آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم (
دام ظله ) :
يقول سماحته
: الظاهر إباحة إنتاج الكائن الحي بهذه الطريقة أو غيرها ، مما يرجع إلى استخدام
نواميس الكون التي أودعها الله تعالى فيه .
والتي يكون
في استكشافها المزيد من معرفة آيات الله تعالى ، وعظيم قدرته ، ودقة صنعته ،
استزادة في تثبيت الحجة ، وتنبيهاً عل صدق الدعوة .
كما قال
عزَّ من قال : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) فصلت : 53 .
ولا يحرم من
ذلك إلا ما كان عن طريق الزنى ، ويلحق به على الأحوط وجوباً تلقيح بويضة المرأة
بحَيمن الرجل الأجنبي تلقيحاً صناعياً خارج الرحم ، بحيث ينتسب الكائن الحي لأبوين
أجنبيين ليس بينهما سبب محلِّل للنكاح .
أمَّا ما
عدا ذلك فلا يحرم في نفسه ، إلا أن يقارِن أمراً محرماً ، كالنظر لما يحرم النظر
إليه ، ولَمس ما يحرم لمسه ، فيحرم ذلك الأمر .
رابعاً : رأي آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي (
دام ظله ) :
يقول سماحته
: إن الاستنساخ البشري هو عمل علمي يمكن حتى أن يستخدم في القضايا التوحيدية ، وقد
يسوِّي المشاكل في المستقبل .
خامساً : رأي آية الله العظمى الشيخ جواد التبريزي ( دام
ظله ) :
يقول سماحته
: لا يجوز الاستنساخ البشري ، لأنَّ التمايز والاختلاف بين أبناء البشر ضرورة
للمجتمعات الإنسانية ، اقتضتها حكمة الله سبحانه .
قال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ) الروم : 22 .
وقال : ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) الحجرات :
13 .
وذلك لتوقف
النظام العام عليه .
بينما
الاستنساخ البشري - إضافة إلى استلزامه محرّمات أخرى كمباشرة غير المماثل ، والنظر
إلى العورة - يوجب اختلال النظام ، وحصول الهرج والفوضى .
ففي النكاح
يختلط الأمر بين الزوجة والأجنبية ، وبين المحَرْم وغيره ، وفي المعاملات كافة لا
يمكن تمييز طرفيها ، فلا يعرف الموجب والقابل .
وفي القضاء
والشهادات لا يمكن تمييز المدَّعِي عن المدَّعَى عليه ، وهما عن الشهود ،
والملاَّك عن غيرهم .
وفي المدارس
والمشاغل والإدارات والامتحانات حيث يسهل إرسال النسخة بدل الأصل فتذهب الحقوق .
وفي الأنساب
والمواريث حيث لا يتميَّز الولد عن الأجنبي - إضافة إلى كون النسخة لا يعدّ ولداً
شرعياً لوالده صاحب الخلية - ، فتضيع الأنساب والمواريث .
سادساً : رأي آية الله العظمى الشيخ الفاضل اللنكراني (
دام ظله ) :
السؤال : ما رأي
سماحتكم في مسألة الاستنساخ البشري للإنسان ؟
الجواب : لا دليل على
حرمته في نفسه ، وإن كان غير جائز من جهة العناوين الثانوية ، والله العالم .
رأي الجامع الأزهر :
أصدر مجمع
البحوث الإسلامية في الجامع الأزهر بالقاهرة فتوى جاء فيها أن : استنساخ الإنسان
حرام ، ويجب التصدي له ، ومنعه بكل الوسائل .
وأكد نص
الفتوى الصادر عن الأزهر : أن الاستنساخ يعرض الإنسان الذي كرَّمه الله لأن يكون
مجالاً للعبث والتجربة ، وإيجاد أشكال مشوَّهة وممسوخة .
رأي الفاتيكان :
اعتبر
الفاتيكان في بيان رسمي : أن الإعلان عن ولادة طفل مستنسخ يعكس عقلية قاسية خالية
من أي اعتبار أخلاقي وإنساني .
وأشار
المتحدث باسم الفاتيكان إلى : أن الإعلان يفتقد أي دليل ، ويثير الريبة والإدانة
لَدَى قسم كبير من المجتمع العلمي الدولي .
ويعارض
الفاتيكان تقليدياً أي شكل من أشكال الاستنساخ ، سواء أكان لأغراض علاجية ، أو
بهدف التكاثر .
كلمة أخيرة :
نقول : إن
منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة قد أكدت على أن الاستنساخ البشري أمر غير
مقبول .
وأن الإعلان
العالمي للجنس البشري وحقوق الإنسان ، حظر مثل هذا السلوك ، واعتبره اعتداءً على
كرامة الإنسان ، وهناك مناقشات حادَّة على مستوى العالم في هذا المجال .
والكلمة
الأخيرة في هذا المجال : إن الاستنساخ باعتباره إنجازاً علمياً كغيره من الإنجازات
العلمية ، لا ينبغي أن يخرج عن إطاره العلمي ، إلا في حدود التشريعات والقوانين
الدينية والإنسانية .
وإلا فإن
خطر تَحوُّل الإنسان إلى قطعان يقودها رعاة البقر الجدد ، وخطر تفكك الأسر ،
واختلال الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، وبالتالي دمار البشرية أمر لا مَناص منه .
0 Comments :
Post a Comment