المقدمة
تشير البرجوازية في الاستخدام الحديث لها إلى طبقة اجتماعية في النظام الرأسمالي تمتلك الثروة المالية، أو ممتلكات أخرى تدر ريعا.
منشأ المصطلح
البرجوازية Bourgeoisie هي مصطلح فرنسي مشتق من كلمة burgeis. وقد كانت البرجوازية طبقة "رسمية" في المجتمع الفرنسي، ويصنّف المنتمون إليها وفقا لمدة إقامتهم في المجتمع، والمصدر الذي يحصلون به على الدخل.
يبدو المصطلح الفرنسي مشتقا من الكلمة الإيطالية borghesia التي تعني قرية، والتي اشتقت بدورها من الكلمة اليونانية pyrgos. وهي تستخدم بمعنى الرجل الحر الذي يتمتع بحق المواطنة في المدينة التي ينتمي إليها.
تطورت الكلمة بعد ذلك فيما بعد ليدل معناها على طبقة التجار. وحتى حلول القرن التاسع عشر كانت تدل بصفة أساسية على الطبقة الوسطى، وهي تلك الطبقة التي تقع في المنطقة الوسطى بين طبقة النبلاء وطبقة البروليتاريا أو طبقة العبيد.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت ثروة وسطوة طبقة النبلاء في الانحدار، وعندها صعدت الطبقة الوسطى لتصبح طبقة حاكمة جديدة.
صعود البرجوازية
في بداية العصور الوسطى، حين كانت المدن لا تزال تُبْنى وتتوسع، ظهر التجار كقوة اقتصادية أساسية. كوّن التجار منظمات شبيهة بالنقابات الحالية، ومؤسسات وشركات لتعزيز الأعمال التجارية الخاصة بهم. هؤلاء التجار كانوا نواة البرجوازية الأولى.
في أواخر العصور الوسطى تحالف هؤلاء التجار مع الملوك للتخلص من النظام الإقطاعي، وبالتالي صعدوا شيئا فشيئا ليصبحوا الطبقة الحاكمة في الأمم التي انتقلت إلى مرحلة الإنتاج الصناعي.
وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر قامت البرجوازية بدعم الثورتين الأمريكية والفرنسية للقضاء على القوانين والأنظمة الإقطاعية، وتمهيد الطريق للتوسع في التجارة. ظهرت الآن مصطلحات مثل الحريات الشخصية، والحريات الدينية، والتجارة الحرة، استمدت كلها من الفلسفة البرجوازية.
لم تكن البرجوازية فوق مستوى النقد، فقد وُصف البرجوازيون دائما بضيق الأفق، والمادية، والرياء، ومقاومة التغيير، والافتقار إلى الثقافة. وقد كان الكاتب المسرحي "موليير" من أبرز المنتقدين للبرجوازية. وكان نمط الحياة البرجوازي موضع احتقار دائما من الطبقات الأرستقراطية.
بتوسع التجارة أكثر، وانتشار اقتصاد السوق، كبرت الطبقة البرجوازية في الحجم، وفي القوة، وفي مدى التأثير الذي تحدثه في المجتمع. وفي كل المجتمعات التي تحولت للصناعة، وجدت الطبقة الأرستقراطية نفسها تتضاءل في الحجم وينسحب البساط من تحتها تحت ضغط ثورة البرجوازية التي أصبحت تصعد صعودا حثيثا لتحل محل الأرستقراطية. كما أدى صعود البرجوازية وانحسار الأرستقراطية، جنبا إلى جنب مع الثورة الصناعية، إلى خلق طبقة جديدة أشد فقرا بكثير هي طبقة العمال أو البروليتاريا.
رؤية الماركسية للبرجوازية
جاء أعنف نقد للبرجوازية من "كارل ماركس"، الذي هاجم بضراوة النظريات السياسية للبرجوازية ورؤيتها للمجتمع والثقافة، وما رأى أنها تنشره من مفاهيم خاطئة للعالم. حيث يرى "ماركس" أن البرجوازية برزت كطبقة حاكمة جديدة، تهدف إلى إعادة تشكيل العالم ليصبح على صورتها وفقا لمفاهيمها الخاصة.
تعرّف الماركسية البرجوازية بأنها طبقة اجتماعية تحصل على مصدر دخلها من ممتلكات تمتلكها وتدر ريعا، أو من التجارة الرأسمالية، أو من بيع وشراء البضائع والخدمات. في العصور الوسطى كان البرجوازيون هم أصحاب الأعمال والموظفون الصغار والمقاولون وموظفو البنوك والتجار، ثم في عصر الصناعة الرأسمالية امتلكوا وسائل الإنتاج (الأراضي والمصانع والمكاتب ورأس المال والموارد أيضا). وقد مكنهم هذا من توظيف عدد كبير من العمال الذين ليس لديهم أي مصدر دخل سوى بيع مجهودهم للآخرين الذين يمتلكون منح فرص العمل.
ترى الماركسية أن طبقة البرجوازية وطبقة البروليتاريا (العمال) لابد وأن تصطدما معا في صراع. فالعمال الذين لا يمتلكون وسائل الإنتاج يجب عليهم أن يبحثوا عن فرصة عمل ليتمكنوا من العيش. يقوم الرأسماليون بتشغيل العمال في مشروعاتهم لإنتاج سلع أو خدمات. تصبح هذه السلع والخدمات ملكا للرأسمالي، ويقوم الرأسمالي ببيع هذه السلع ويحصل على الأموال في المقابل. ويرى "ماركس" أن الرأسمالي حصل على هذا المال دون أن يمارس عملا فعليا، وأنه حصل على هذه الثروة من خلال استغلاله لعمل ومجهود العمال الذين يعملون لديه. لذا يرى "ماركس" أن النظام الرأسمالي يقوم على استغلال طبقة البروليتاريا أو العمال.
في المجتمعات الشيوعية تعتبر كلمة (برجوازي) سبّة! وفي روايات الجاسوسية دائما ما كنا نجد أن الجاسوس الروسي يسب العميل الأمريكي بأنه "برجوازي متعفن"! وهذا نابع من استخدام "ماركس" نفسه للمصطلح، واحتقاره للطبقة البرجوازية مالكة رأس المال التي يرى أنها تتبع أسلوبا في الحياة يقوم على استغلال الآخرين. كان "ماركس" معجبا بالقيم الصناعية لهذه الطبقة، إلا أنه كان ينتقد دائما أخلاقها الاستغلالية.
فيما بعد، وفي الدول الشيوعية نفسها التي تمتلك وتسيطر على كل وسائل الإنتاج، أصبح لفظ برجوازي يطلق على الموظفين الكبار أو المسئولين في درجات الحكومة العليا، حيث أصبح اللفظ يطلق على كل من يتحكم في وسائل الإنتاج، بغض النظر عن كونه يمتلكها أم لا.
الطبقة البرجوازية والإصلاح الديني
أدى ظهور الطبقة الوسطى التجارية وسكان المدن في أوربا إلى تغيير وجه الحياة فيها، فتغيرت نظرة الناس إلى عادات وتقاليد العصور الوسطى في أوربا، فأخذت هذه العادات والتقاليد تتزعزع أسسها مع انهيار المجتمع الإقطاعي وبناء المتجمع البرجوازي نتيجة انتعاش التجارة واكتشاف الطرق التجارية براً وجواً وإنشاء المدن التجارية نتيجة تجمع التجار لتبادل التجارة، وانتعاش رؤوس الأموال التي أظهرت شخصية هذه الطبقة في مواجهة الإقطاع والرأسمالية ومنها الكنيسة الكاثوليكية نفسها، مما أخذ معه البناء السياسي والفكري والديني والقانوني والفلسفي في الانهيار أمام هذا البناء الجديد في نفس المسارات.
فكانت الكنيسة الكاثوليكية في ظل العلاقات الإقطاعية قد استطاعت أن تصوغ الدين في شكل يتفق مع هذه العلاقات فعملت على تمجيد حياه الزهد والتقشف والنهي عن التمتع بجمال الحياة ونعيمها بالنسبة للشعب فقط دون رجالها ودعت هؤلاء الناس إلى تعذيب النفس وحرمانها استعدادا لنعيم الآخرة وذلك بغرض حمل الشعب على قبول الاستغلال الإقطاعي في إذعان واستسلام.
وكانت الكنيسة تطلب إلى الناس اتباع تعاليمها دون مناقشة الأمر الذي أمات فيهم روح البحث والابتكار بل والتعليم على أساس أن الجهل يسهل قياده الشعب، وأعمى إنسان العصور الوسطي عن رؤية جمال العالم وفكره وثقافته. فقد كان الجمال في نظره رجساً من عمل الشيطان ولم تصبح الدنيا في رأيه إلا مضيفه إلى الدار الآخرة، وحببوا إليه الجهل ليكون مقبولا لدي الله لأنه في نظرهم – دليل على صدق العقيدة وقوة الإيمان.
وفي الوقت الذي كانت فيه الكنيسة تقوم بهذا إزاء الجماهير الكادحة كانت تمارس الاستقلال المادي لهذه الجماهير، بأشد مما كانت تمارسه طبقة النبلاء والإقطاعيين، وكان الباباوات في روما يعيشون عيشة الترف، وانغمس بعضهم في حمأة الرذيلة كما تمتع بعض رجال الكنيسة بالكثير من الحقوق الامتيازات الدينية والمدنية التي لم يكن يتمتع بها سائر أفراد المجتمع آنذاك وكانت الكنيسة إلى جانب امتلاكها إقطاعيات واسعة معفاة من الضرائب لها الحق في جمع نوع من الضرائب في شكل العشور.
وفي الوقت نفسه لم تكتفي الكنيسة بما كانت تتمتع به من مركز هام في المجتمع الإقطاعي بحكم دورها الديني، بل أراد الباباوات إخضاع الأباطرة لسلطتهم وبمعني آخر إخضاع السلطة المدنية للسلطة الدينية رغم أن المسيحية تؤكد أن الكنيسة والدولة تستمدان سلطتهما من الله الذي أوكل لواحدة حكم الروح والأخرى سلطه الإدارة (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) الأمر الذي أدى إلى النزاع بين البابوية والإمبراطورية.
وقد كان من الطبيعي مع انهيار المجتمع الإقطاعي وظهور طبقه جديدة على أنقاض هذا المجتمع وهي البورجوازية بمفاهيم ومُثَل جديدة وبأسلوب في الحياة والتفكير يختلف عن أسلوب العصور الوسطي، أن تصحوا أذهان الناس على مساوئ الكنيسة ومفاسدها وان تتمرد نفوسهم على قيودها ونظرياتها فوقعت سلسله من ردود الفعل وبناء هيكل كنسي جديد يتفق مع علاقات الإنتاج الجديدة. وما ترتب على هذه العلاقات من قيام بناء علوي جديد.
ولقد لعبت الطبقة البرجوازية bourgeoisie الدور الرئيسي في تحطيم سلطة الكنيسة الكاثوليكية في عصورها الوسطي هي الطبقة الثورية وكان قد سبق لها أن بلغت مركزا مرموقا في المجتمع بفضل ثرائها القائم على رأس المال ولكن هذا المركز مع ذلك كان لا يتلاءم مع قوتها وقدرتها على التوسع والامتداد وبالتالي لما كان النظام الإقطاعي هو الذي يقف حائلاً دون نموها وتطورها فقد كان عليها، تحطم هذا النظام.
ولكن الكنيسة الكاثوليكية كانت المركز الدولي العظيم للإقطاع وهي التي وحدت أوروبا الغربية الإقطاعية وجعلت فيها برغم كل الحروب الداخلية نظاماً سياسياً موحداً يقف إزاء الكنيسة الإغريقية الأرثوذكسية المنشقة عليها (هذا في رأي الكاثوليك) والممالك الإسلامية على حد سواء أحاطت الأنظمة الإقطاعية بهالة من القداسة ونظمت طبقاتها دفعه النموذج الإقطاعي وأخيراً كانت الكنيسة أقوى سيد إقطاعي وتملكت ثلث أرض العالم الكاثوليكي ولهذا كان لابد قبل توجيه هجوم ناجح إلى النظام الإقطاعي الفاسد في كل بلد لابد من تحطيم نظامه المركزي المقدس وفضلاً عن هذا فقد صاحب نمو البرجوازية عملية إحياء العلوم العظيمة من فلك وميكانيكا وطبيعة وتشريح وفسيولوجيا في حين كان العلم في العصر الإقطاعي هو الخادم المطيع للكنيسة ولم تكن تسمح له بأن يتخطى الحدود التي رسمتها العقيدة.
يتبين من كل ذلك أن البورجوازية كانت هي الطبقة التي يعنيها أكثر من غيرها النضال ضد دعاوى الكنيسة الكاثوليكية. ذلك أن كل صراع في ذلك الوقت ضد الإقطاع كان لابد أن يجري تحت ستار ديني؛ أي يجب أن يكون موجها ضد الكنيسة أولاً.
ولكن إذا كانت البداية بدأت من البرجوازية فقد كان من المحقق أن يتردد صداها في طبقات أخرى. فقد تردد صداها في جماهير الفلاحين الذين كان عليهم أن يكافحوا من أجل وجودهم ضد سادتهم الإقطاعيين، كما تردد صداها في طبقة الفرسان الذين كان عليهم أن يكافحوا ضد سيطرة كبار النبلاء.
0 Comments :
Post a Comment