التعديل الوراثي : مبرراته, فوائده وآثاره على البيئة والمجتمعات
إعداد
الدكتور لخضر خليفي و الدكتورة ماجدة خليفي- سلاوي
مخبر الموارد الجينية والتقانة الحيوية , المعهد الوطني للعلوم الفلاحية , الحراش – الجزائر
بالتعاون مع المعهد الوطني الجزائري للبحث الزراعي , الحراش – الجزائر
ملخص :
إن تطبيقات التقانات الحيوية وخاصة التحوير الوراثي متنوعة وهي تخص ميادين متعددة حيث بإمكانها أن توفر حلولا مناسبة وجذرية للكثير من مشاكل الفلاحة, البيئة والصحة الإنسانية والحيوانية. إنّ مروّجي هذه التقانات يقدّمونها كحلّ أمثل ووحيد لمعضلات المجاعة في العالم في القرن الواحد والعشرين , وخاصّة في البلدان المتخلّفة والنّامية. هذه الحجّة كثيرا ما تقدّم لإضفاء الشّرعية اللازمة تجاه الحركات المناهضة هنا وهناك ، وخاصّة في البلدان المتقدّمة المنتجة لهذه التقانات. ولكن هل يحقّ لنا أن نقارن بلداننا بالبلدان المتقدّمة التي تعيش بذخا لم تعرفه الإنسانية من قبل (والتي كثيرا ما يكون لها ردّ فعل أناني كالطفل المدلّع الذي لا يهمّه إلاّ أن يكون صحنه مملوءا دائماً) فنقع بدورنا في الجدال العقيم الذي يثار حول التحوير الوراثي.
هل نحن معنيون حقّا بهـذا الجدال كما هـو مطروح في تلك البلدان ؟ أم علينا أن نطرح الموضوع للنّقاش بطريقة مسؤولة وبنّاءة حتّى نتفادى الطّروحات العقيمة التي تؤدّي حتما إلى الطّريق المسدود وبالتّالي مضيعة الوقت والجهد بلا فائدة ؟ ثمّ هل نحن كبلدان (إلاّ القليل) شبه تابعة أو تابعة غذائيا في مستوى التّحدي المطروح وهو منع دخول المنتوج المحوّر وراثيا على أساس أنّه خطير (إذا سلّمنا بذلك) ؟ لا شك أنّ الجواب هو النّفي لأنّنا لا نملك أيّة وسيلة ضغط كمستوردين على مستوى الأسواق العالمية فيما يخص نوعية الغذاء المستورد, إنّما هو قانون العرض و الطّلب, ثم هل يعقل أنّ البلدان التي تنتج المواد المحوّرة وراثيا تستهلكها داخليا و تصدّر لنا غير المحوّر؟ الجواب لا بلا شكّ, وإلا فيجب أن ندفع أكثر, من ناحية أخرى هل نملك في الوقت الرّاهن الوسائل اللاّزمة لمراقبة وارداتنا الغذائية للكشف عن التي تحتوي منها على موادّ محوّرة ؟
إنّ هذه الورقة ستتناول موضوع التحوير الوراثي من جوانب مختلفة : المبررات , الفوائد, الأخطار الممكنة ثم الآثار المتوقّعة على البيئة و المجتمعات صحيّا, أخلاقيا واقتصاديا , وسنركّز في كلّ جانب على موضوع الجدل القائم ومدى أساس صحّته أو عدمها.
مقدّمة :
لقد مرّت الإنسانية عبر تاريخها بمراحل متعدّدة و كلّ ذلك كان نتاج تطوّر الفكر و المعارف في كل مجالات الحياة , فمن الصّيد إلى التدجين إلى الجني إلى الفلاحة البدائية إلى الصّناعة فالثّورة الصّناعية ثمّ الثّورة الخضراء إلى أن وصل بها المطاف إلى التحسين الوراثي بكلّ أشكاله بما في ذلك التّحوير الوراثي للمحاصيل الذي يعتبر نقطة تحوّل حاسمة في التّعامل مع الأحياء. إنّ علم الوراثة يكاد يصبح من العلوم الدّقيقة وهذا ما يجعل بلا شكّ هذا القرن قرن علم الأحياء والتقانة الحيوية على غرار ما كان عليه القرن الماضي كقرن للفيزياء والذرّة . ولكن أين حصل كلّ هذا التقدم وأين نحن في خضمّ كلّ هذه التغيرات؟ لا شكّ وأنّنا بعيدون عن هذا والدليل هو تبعيتنا ( إن كليا أو جزئيا في كثير من مجالات الحياة وخاصة في مجالي التغذية و الأدوية) إلى العالم المتقدّم الرائد في هذا المجال.
إنّ التبعية التي نشهدها اليوم مرشحة للتفاقم في العقود القادمة ما لم نتدارك أمورنا بوضع سياسات جريئة مركّزة على مشاكل الماء, البيئة والزراعة لا سيّما وأن جل شعوبنا تعرف نموا ديمغرافيا عاليا وذلك موازاة بانحصار موارد المياه, اتّساع رقع التّصحر هنا وهناك مما يؤدي حتما إلى تقلّص المساحات المزروعة وتدهور الأسس الوراثية في العديد من البقاع, ولا شكّ أن هذه العوامل ستؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع حدة الفقر وتفشي الأوبئة وظهور نزاعات على مستويات عديدة (داخليا وخارجيا). فماذا علينا لتدارك أمورنا وخاصة في المجال الزراعي بحيث أنّ الأمم التي لا تملك قوت شعوبها لا تملك سيادتها ولا تستطيع أن تختار مصيرها بحرية ، يكمن الحل في وضع برامج تنمية مستدامة قائمة على المحافظة على الماء والتربة الذان يمثلان ركيزة لاستمرار الحياة . إنّ هاتين الركيزتين إنما تمثلان الدعامة الأولى لتحصين أسسنا الوراثية التي يجب المحافظة عليها وتطويرها بكل الوسائل المتاحة بما في ذلك التقانة الحيوية , فلا مستقبل للأمم ولا لأجيالها المقبلة بدون هذه الأسس.
إنّ من الحقائق التي لايجب أن نغفل عنها الربط بين مستجدّات البحث العلمي و النمو الاقتصادي وخاصّة الزراعي. إنّ معدّل الدّخل القومي في الدّول المتقدّمة يفوق بأربعين (40) مرّة معدّل الدّخل القومي في الدّول النّامية ولا غرابة في ذلك طالما أنّ النمو الاقتصادي في تلك الدول يرتكز في الدّرجة الأولى على المعطيات العلمية التي يسخّر لها في هذه البلدان من الأموال ما لا يقلّ عن 220 مرّة ممّا هو عليه في الدّول النامية (SERAGELDINE 2002).
إنّ التطور المذهل للمحاصيل الزراعية في الدول المتقدمة يعود أساسا إلى إدخال برامج التحسين الوراثي بشكل كبير مع انتهاج أنظمة زراعية مكثفة (ري, أسمدة, رعاية صحية..) إلى أن وصل الأمر في هذه الدول إلى المنتجات المحورة وراثيا و التي وصلت مساحتها سنة 2002 إلى 52 مليون هكتار معظمها في أمريكا الشمالية وهو ما يعادل ما قيمته 5 مليار دولار أمريكي, وهذه الأرقام مرشحة للارتفاع مع حلول آفاق 2010 حيث من المنتظر أن تتضاعف 5 مرات على الأقل (GNIS 2002) , فأين نحن من كل هذا ؟
لا شك أن العديد من بلداننا تستورد و تستهلك , بعلم أو بغير علم, تلك المنتجات المحورة وراثيا من ذرة , زيوت , قطن .., لسدّ حاجيات المواطنين وهذا أمر طبيعي للغاية. أما الأمر غير العادي فهو ما يثار عندنا من ضوضاء وجدل حول هذه المنتجات بالشكل الذي هو قائم به في البلدان المتقدمة كأوروبا التي كثيرا ما تشكو من فائضها الزراعي غير المحور و الذي كثيرا ما تعجز عن تسويقه. فهل لنا خيار في ذلك؟ إما أن نستورد ما هو موجود في الأسواق العالمية وإما أن نحرم المواطن … ثم حتى وإن كان لنا خيار بين المحوّر وغيره فهل الكل يملك الموارد المالية الإضافية لشراء غير المحور؟ أم أنهم (الدول المنتجة للأغذية المحورة) سفهاء يبيعون المنتوج العضوي و يستهلكون المحوّر؟ ثم حتى وإن زعموا أن المنتوج المباع لنا غير محورا, فهل كلنا نملك الوسائل العلمية الضرورية للتحقق من ذلك ؟ لماذا نحن دوما هكذا في تبعية فكرية مطلقة تكاد تكون عمياء لكل ما هو حاصل في العالم الغربي من نقاش وجدال كثيرا ما يقترب من العقم.ثمّ لا يجب أن ننسى صحون الكثير من شعوبنا ليست مليئة كصحونهم !!.
إن الثورة العلمية التي نشهدها اليوم لم يسبق لها مثيل حيث أن اتحاد الثورة الرقمية (0101) والشفرة الوراثية ACGT)) فتحت وستفتح آفاقا جديدة وأبوابا عديدة لحل الكثير من المعضلات المتعلقة بالتغذية والأدوية , فهل سنكون عند مستوى التحديات التي تواجه شعوبنا طالما أن الموارد المالية مع قلتها موجودة ؟ ويجب أن لا ننسى أن التقانة الحيوية أنتجت منذ 25 سنة ما لا يقل عن 1233 مادة جديدة, 11 منها فقط أنتجت خصيصا للمناطق الفقيرة في العالم بينما أكثر من نصفها موجه للحيوان في البلدان المتقدمة (SERAGELDINE 2002) , إن الأمر غني عن أي تعليق لا سيما وأن الكثير من تلك المواد أنتجت باستعمال الكثير من مواردنا الوراثية المنهوبة وفي كثير من الأحيان بتخطيط من علماء أمتنا. إذاً فإلى متى سنظل ننتظر وننتظر من الآخرين حل مشاكلنا ؟
ما علينا إلا ان نفكـر فـي الاستفادة مـن هـذه التقانات الجديدة واستعمالها بعقلانيـة كأداة تنمية مستدامة حفاظا على مواردنا الجينية وتحسينا لمنتجاتنا الزراعية , إن الآفاق واسعة والأبواب ما تزال مفتوحة أمامنا, ومـن يدري لعلهم يقولون لنا يـوما إن هذا النوع مـن التقانـة محظور عليكم لأنه يهـدد أمنهم ومصالحهم الاقتصاديـة . علينا بولوج هـذا الفضاء وعلينا أيضا أن نكـون أخلاقيين تجاه بيئاتنا ومجتمعاتنا متخذين كل أسباب الأمان حتى لا نجازف بوجودنا وكذا الأجيال التي من بعدنا.
سنحاول من خلال هذه الورقة إلقاء الضوء على بعض مبررات التحوير الوراثي وفوائده وكذا بعض مخاطره المحتملة مـن آثار على البيئة والمجتمعات مع إبراز مكامن الجدال القائم كلما أمكن ذلك.
1- مفهوم الخطر :
* مفاهيم عامة :
إن مفهوم الخطر هو احتمال وقوع حادث يعرض الإنسان إلى مشكل قد تكون عواقبه وخيمة. الاحتمال صفر لا يوجد على الإطلاق طالم يزال الإنسان حيا , ولكن يجب أن نعي بأن مفهوم الخطر يختلف حسب الحالات : خطر قائم وخطر محتمل.
في حالة التحوير الوراثي من المستفيد من الخطر إن وجد , الباحث المحور أم المنتج ؟ لا شك لا احد منهما, وهذا ما يجعل كلا الطرفين يعملان على تفادي الخطر وإلا كانت عاقبته الحكـم من طرف المستهلك بالزوال . من ناحية أخرى هل يمكن للمرء أن يتطور, ويكون حرا كريما أو بكل بساطة أن يعيش ويوجد دون القبول ولو بالقليل من الخطر؟ و الجواب لا , وهذه سنة الله في الحياة, من هنا نعي بأن مفهوم الوجود والتطور والعيش اليسير غير قابل للفصل من مفهوم الخطر, وهكذا يبدو جليا مفهوم ثان ألا وهو مفهوم قبول الخطر الذي تتغير درجته حسب المجتمعات وضرورة الوجود والتطور ضمن الأهداف والاستراتجيات المسطرة على المدى القصير, المتوسط و البعيد.
إن عدم وجود الاحتمال صفر لوقوع خطر لا يعني على الإطلاق عدم أخذ أسباب الحيطة والحذر. من هذا المنطلق يظهر مفهوم ثالث ألا وهو مبدأ الاحتياط. إن المخاوف المثارة هنا وهناك حول المنتجات المحورة وراثيا قد ترتب في نوعين مختلفين :
- مخاوف غير مؤسسة لا عقلانيا و لا منطقيا و مصدرها تصريحات من أناس متطفلين بعيدين كليا عن هذا الميدان, الشيء الذي جعلهم يخلطون بين الأمور كمرض جنون البقر, dioxin والمنتجات المحورة وراثيا.
- مخاوف منطقية وعقلانية ومرجعها الأصلي أهل العلم والدّراية في هذا المجال الذين يفرقون بين الحالات الحقيقية للخطر والحالات المحتملة.
ففي كلتي الحالتين يجب على العلماء أن يشرحوا ويناقشوا مع مجتمعاتهم تفاصيل القضية حتى يسهل الاستيعاب فيتم بذلك الإقناع .
إن الأمم الأكثر تقدما في يومنا هي الأمم الأكثر جرأة و الأكثر ركوبا للمخاطر و هي التي تفرض نفسها في كل المحافل و بدون منازع ، وهي ذاتها التي تهيمن هيمنة تكاد تكون مطلقة على العالم ، فكلمتها لا تلين و عزيمتها لا تثنى, وليس من الصدفة في شيء أن تكون هي الأكثر ثراءاً والأكثر تقدما بما في ذلك التحوير الوراثي.
إن هذا الاستنتاج لا يجب أن يفهم كنداء صارخ لإدخال المنتجات المحورة وراثيا إلى بلداننا دون أخذ كل أسباب الحيطة والحذر أو دون الرجوع إلى المبادئ السامية لأمتنا وقيمها من دين وعادات وتقاليد , لإننا مهددون بالخطر على أية حال .
* انعكاسات مفهوم الخطر على القوانين في أوروبا و أمريكا :
إنّ مفهوم الخطر انعكس وبشكل كبير على الأنظمة و القوانين في بعض الدول المتقدمة. ففي مجال التحوير الوراثي بالذات يظهر الفرق جليا بين القوانين الأمريكية و الأوروبية, في حين يعتبر القانون الأمريكي أن الأغذية المحورة وراثيا أغذية طبيعية لا تشكل أي خطر حتى يثبت العكس فإن القانون الأوروبي وخاصة الفرنسي يعتبر الأغذية المحورة وراثيا غير طبيعية يحتمل أن تشكل خطرا إلى أن يثبت العكس . ففي أمريكا الباحث غير معني مباشرة بإثبات عدم خطورة منتوجه بينما في أوروبا هو ملزم بإثبات عدم الخطورة . إن هذا ما جعل بلا شك المواد المحورة وراثيا تغزو الأسواق في أمريكا الشمالية بينما تظل محل جدال لا يكاد ينتهي في أوروبا, وربما يكون هذا هو السبب الرئيسي وراء الحدّ من هذه المنتجات وتقليص انتشارها وهذا ما قد يفسر أيضا تخلف الدول الأوروبية نسبيا في ميدان التحوير الوراثي مقارنة بأمريكا . ويبدو الآن أن الأنظمة الأوروبية بصدد رفع بعض القيود المفروضة على المنتجات المحورة وراثيا بالسماح بتوسيع مساحات التجارب مع إبقاء بل وتعزيز فرق المراقبة والمتابعة الميدانية على مستوى الصحة و البيئة.
2- التحوير الوراثي في أرقام :
إن جل الدول المتقدمة إما منتجة أو مستهلكة أو منتجة و مستهلكة في آن واحد للمواد المحورة وراثيا (شكل 1 ). إن المساحات المصرح بها قد عرفت تطورا مذهلا في ظرف 6 سنوات حيث قفزت من 2 مليون هكتار سنة 1996 إلى أكثر من 52 مليون هكتار سنة 2001 وهي موزعة كالتالي حسب البلدان : أمريكا 68%, الأرجنتين 22 %, كندا 6 % والصين 3 %. وهذه المساحات السالف ذكرها مرشحة للتضاعف خلال العقد القادم ( شكل 2, شكل 3).
إن المساحات السابقة موزعة بنسب متفاوتة على الأنواع النباتية التالية بحسب أهميتها الاقتصادية وذلك سنة 2001 : الصويا 63% , الذرة 19 % , القطن 13 % ثم الشلجم 5% ( شكل 4) . ولكن قائمة النباتات المحورة وراثيا طويلة جدا إلا أن الكثير منها لم يمر بعد إلى ميدان الزراعة والاستغلال .
أما من ناحية الخصائص الوراثية المحورة فهي تتوزع على النحو التالي : تحمّل مفعول مبيدات الأعشاب 71% , تحمّل مفعول مبيدات الحشرات 22 %, تحمّل مفعول مبيدات الأعشاب والحشرات معا 7% , المقاومة للفيروسات 1%, بينما النوعية الغذائية 0 % . وهذا يبين أن الجهود الحالية موجهة خاصة نحو الإنتاج الكمي و ليس النوعي (شكل 5).
أما قيمة مبيعات المنتجات المحورة وراثيا فهي أيضا في تطور مستمر حيث قفزت من حوالي 2 مليار دولار سنة 1998 إلى حوالي 5 مليار دولار/سنة 2000 والأرقام مرشحة لبلوغ 25 مليار مع حلول سنة 2010 (شكل 6).
إن الأغذيـة المحتمل احتوائها علـى مركبات محـورة متعددة ( فواكـه , خضر , حبوب..) لأنها فـي أغلب الأحيان مستـوردة إما في شكل غـذاء أو في شكل بذور , وكذلك كل غـذاء يحتوي على عنصر أو أكثر من هذه المواد فهو أيضا محور ( دقيق, زيوت, حلويات . نشأ الذرة , أغذيـة الصبيان. زبدة نباتية…) . هكذا يبدو جليا أن الهـروب مـن هـذه المـواد صعب للغاية ما دام معظمه مستورد من الخارج وبالتحديد من البلدان الأكثر تقدما و انتاجا في ميدان التحوير الوراثي.
3- الفوائد والمبررات :
إن الرهانات الاقتصادية للمنتجات المحورة وراثيا كبيرة, حيث تخص بالدرجة الأولى راحة الإنسان ورفاهيته, مما يجعل الكثير من الآمال معلقة عليها خلال هذه الألفية لحل مشاكل الإنسانية من جوع وفقر . لهذا فان عدة شركات عالمية تستثمر الكثير من رؤوس أموالها في هذا المجال وليس ذلك صدفة لأنها تعلم أن الربح مضمون وأن الذي يضمن غذاء الإنسانية دواءها سيتحكم في مصيرها لا محالة . لذا فان مبـررات المنتجات المحـورة عديـدة ومتشعبة سنذكر هنا الأهم منها.
الدقة في التحسين الوراثي :
الطرق التقليدية المنتهجة في التحسين الوراثي ثقيلة و طويلة الأمد وينقصها الكثير من الدقة للوصول إلى الخصائص الوراثية المرغوبة ، وفي معظم الأحيان قد يستحيل ذلك خاصة إذا تعلق الأمر بأصناف نباتية أو حيوانية لا تربطها علاقة توافق وراثي وهذا رغم استعمال أعداد هائلة من النسل الناتج من برامج التّصالب ورغم طول المدة اللازمة لعملية الانتقاء.
أما التحوير الوراثي فانه يمتاز بدقته العالية في الكشف عن المورثات المسئولة عن الخاصية المرغوبة ثم استنساخها فنقلها بعد ذلك الى الصنف المراد تحسينه. وهنا يجب التذكير بان الشفرة الو راثية موحدة لدى كل الكائنات الحية (عدا بعض الاستثناءات القليلة) وهو ما يمكن من كسر كل الحواجز الوراثية بين الأحياء فيسهل نقل أي مورث من صنف إلى آخر, من نوع إلى آخر من عالم النبات إلى عالم الحيوان أو العكس, من الكائنات المجهرية إلى النباتات الخ… وهكذا فان كل مورث ذي أهمية يمكن عزله, استنساخه, حفظه و نقله إلى كائن آخر متى استوجب الأمر ذلك لتحسينه بدقة عالية وكسب وقت, وهكذا فانه يمكن أيضا إضافة خاصية جديدة لأصناف لم تكن تحملها من قبل وهو ما ينطبق على كل الكائنات الحية.
* المردودية الاقتصادية :
إن أساس تطور المنتجات المحورة وراثيا هو المردود الاقتصادي العالي وهو المبرر الأول وإلاّ فكيف يمكــن تفسير اهتمــام الشركات العالمية الكبرى (Monsanto, Pioneer, Novartis Rhone Poulenc, ) بهذا الفرع الاقتصادي المهم والذي ما تزال تستثمر فيه أموالا خيالية , ثم لا يجب أن ننسى أن أغلب تلك الشركات كانت في يوم ما وربما ما تزال تنشط في مجال الصناعات الكيماوية ( إنتاج المبيدات),والآن البعض منها لا يكتفي بإنتاج أصناف محورة وراثيا بل وينتج المبيد الذي من أجله وجدت, فيصبح ربحها ربحين. ومن الأدلة الأخرى التي تبين أن المبرر الاقتصادي كبير الأهمية في مجال التحوير الوراثي هو تسابقها المستمر, وخاصة في أمريكا لشراء كل براءات الاختراع حتى وإن كانت غير أخلاقية في بعض الأحيان (سنعود إلى ذلك في موضع اخر) كالأصناف المعقمة مسبقا فلا يمكن استخدامها إلاّمرة واحدة من طرف المزارعين (Terminator technology) . هكذا يبدو واضحا كل الوضوح أن الهدف الوحيد لدى تلك الشركات هو المنفعة الاقتصادية بل ابعد من ذلك : كالسيطرة على السوق العالمية للبذور, المنتجات الزراعية وحتى الصيدلانية.
* الفوائد العلمية :
تعتبر علوم الوراثة والكيمياء العضوية, و أخيرا علم الوراثة الجزيئي الأسس النظرية للتحوير الوراثي. فكل هذه العلوم يسّرت للعلماء فكّ و فهم الكثير من ألغاز الكائنات الحية خاصة فيما يتعلق بوظائفها الحيوية, وذلك بفضل الطفرات الموجهة والتي تمكن من استنتاج المورثات والخصائص المتعلقة بها و كذا أثرها على النمط الظاهري لكل مورث. فبفضل علم الوراثة الجزيئي والتحوير الوراثي تم اكتشاف محتوى التركيبة الوراثية للإنسان وكذا للعديد من النباتات لا شك أن كل ذلك سوف يشكل تحولاً هاما في التعامل مع العديد من الخصائص والعوامل في المستقبل.
* المحافظة على البيئة :
لا شك و أن الأحياء المحورة وراثيا قد تساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في الحد من تلوث البيئة بل و حتى تخليصها منه وإن لم يكن في البداية ذلك هو المراد من تلك الأحياء . ففي الزراعة مثلا : استعمال أصناف مقاومة للأوبئة و الحشرات (حماية وراثية للنباتات) خاصة سيشكل حلا جذريا للحد من تلويث المحيط, من تربة وماء وهواء , بالحد من استعمال المبيدات بشتى أنواعها .
كما يمكن تحوير أنواع أخرى من النبات لجعلها قادرة على تخليص الأماكن الملوثة من المعادن الثقيلة إلى غير ذلك وأيضا يمكن تكوين نباتات منتجة لمواد بديلة ومتحللة عضويا (بلاستك عضوي, زيوت عضوية رفيعة القيمة, وقود للمحركات..) للكثير من المواد الملوثة المستعملة حاليا و ذلك ما يسمى بالجيل الثالث من الأجسام المحورة وراثيا. ويمكن من جهة أخرى تكوين نباتات أكثر ملائمة للصناعات التحويلية باستعمال كميات أقل من المواد الملوثة التي تدخل في هذه الصناعات كصناعة الورق والنسيج الخ.. هكذا نرى بأن التحوير الوراثي لا يخدم تطور الإنسانية فحسب, بل ويساهم في تحسين البيئة المحيطة به إذا ما استعمل استعمالا عقلانيا.
4- الأخطار والآثار المحتملة على البيئة و المجتمعات :
يوجد حاليا الكثير من الأصناف المحورة وراثيا (كما سبق ذكره آنفا) من فول الصويا والذرة المستهلكة في العديد من البلدان وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ عدة سنوات و لا يعني ذلك أن هذه البلدان غافلة عن الخطر الذي قد ينجم عن ذلك ولا هي مستهترة بصحة مواطنيها وسلامة بيئتها . ولكنها اختارت التعامل مع هذه القضية بمبدأ كون المنتجات المحورة منتجات طبيعية, (و هو أقرب ما يكون إلى الصواب حسب رأينا) , غير مضرة بالصحة ولا بالبيئة, ولا يعني أيضا أن هذه البلدان لا تعمل على تهيئة نفسها إذا ما وقع أي طارئ, و ذلك ما جعلهم يخْطون خطوات عملاقة في هذا المجال باتخاذ أسباب الحيطة من جهة وقبول احتمال وقوع بعض الخطر من جهة أخرى.
أما الدول الأوربية فقد اختارت في معظمها التعامل مع القضية على أساس أن المنتجات المحورة غير طبيعية لذا يجب التأكد مسبقا من خطرها أو عدمه على الصحة و البيئة قبل الشروع في استغلالها على نطاق واسع في حقولها. والغريب في الأمر أنها هي المكتشفة الأولى للتحوير الوراثي الطبيعي الذي فتح كل الآفاق, والغريب أيضا هو استهلاكها للمنتجات المحورة المستوردة رغم قدرتها على إنتاجها محليا. يقولون إنه مبدأ الحذر ولكن أليس من المنطق أن يخافوا أولا على صحة المواطن المعرضة مباشرة للخطر كما يزعمون بتناول الغذاء المحور قبل أن يحافظوا على سلامة البيئة؟
صحيح إن الإنسانية وخاصة علماؤها لا يملكون من الرؤية العلمية ما يكفي لتقييم كل الأخطار الممكنة تقييما دقيقا و شاملا, ولكن التعامل مع القضية بهذه المتناقضات لا يمكن إلا أن يعمق الجدال ويوسعه , وهذا ما نشهده منذ سنين والذي كثيرا ما أدى إلى العنف والتخريب لو على حساب مساحات تجريبية لا تخدم إلا التقدم العلمي.
* الآثار على البيئة :
* التلويث الوراثي :
يتم تبادل ونقل المعلومة الوراثية عند النباتات عن طريق التناسل ****** أي بواسطة حبوب الطلع التي تعمل على نشر المورثات سواء داخل نفس النوع أو حتى بين الأنواع في وجود توافق التركيبة الوراثية . ولكن هذا النقل للمورثات يتم حسب نوع النبات والوسط الذي يعيش فيه وذلك ما يجعل أمثل طريقة لدراسة توارث المورثات المحوِّرة هو دراسة الأمور حالة بحالة وليس التعميم.
إن الكثير يعتبر أن المورثات المقاومة لمبيدات الأعشاب المركبة في النبات المحور يمكنها أن تنتقل إلى النباتات البرية الأخرى فتصبح هي أيضا مقاومة فيصعب بالتالي محاربتها , قد يكون ذلك صحيحا ولكن لا يجب أن نغفل عن المعلومات العلمية التالية :
- ظهور مقاومة للمبيدات العشبية لدى النباتات ليس بالظاهرة الغريبة, وهي معروفة منذ أكثر من نصف قرن وهي ناتجة عن وقوع طفرات بتكرار استعمال نفس المبيد ورغم هذا لم يرفع أحد صوته للمطالبة بوقف استعمال المبيدات , ولن يتمكنوا من ذلك , ثم حتى مع ظهور تلك الطفرات فهل تغير المحيط من جرائها حقا ؟ طبعا لا , وهذا رغم مرور نصف قرن على ذلك.
- اكتساب النبات البري لمورث المقاومة للمبيدات لا يجديه نفعا إذا لم يكن النبات نفسه معرضا باستمرار لنفس المبيد لأنه يصبح في هذه الحالة ثقلا عليه و ليس في صالحه.
- إن تبادل المورثات بين الأحياء أمر طبيعي وبفضله تم تطوير أصناف مزروعة تتماشى ومتطلبات الإنسان من تطور وازدهار, أليس القمح الحالي خليط بين القمح القديم (tritical) والسلة وغيرها وهو يحتوي على أجزاء كبيرة من الحمض النووي للسلة؟ ومع ذلك فلا القمح القديم أصبح سلة ولا السلة أصبحت قمحا بل هو صنف جديد تم انتخابه لتغذية الإنسان.
- ثم لا يجب أن ننسى بأن الوسط البيئي له أهميته الكبرى لتنقل المورثات بحيث لا يمكن لأي مورث مهما كان أن ينتقل إلى نوع آخر دون وجود توافق وراثي بين النوع المحور والنوع الثاني, فالذرة مثلا موطنها الأصلي هو المكسيك ولا يوجد في منطقتنا أي نوع بري متوافق وراثيا معه , فكيف نخشى في هذه الحال انتقال المورث المحوِّر إلى نباتاتنا البرية؟
- لنفرض أن مورث المقاومة انتقل حقا إلى النبات البري , فأين المشكلة ؟ ألا يمكن استعمال مبيد آخر لإزالته إذا تطلب الأمر ذلك ؟ أم يجب التمسك دائما بنفس المبيد؟ ألا يشكل ذلك تبعية عمياء لا يمكن إلا أن تخدم الشركات المنتجة للمبيد؟
* فلما الجدال إذن فيما لا يجدي نفعا ؟
* ظهور حشرات مقاومة للنبات المحوّر
إن الطريقة الأكثر استعمالا إلى حد الآن في محاربة الحشرات الضارة بالمزروعات وغيرها هي المكافحة الكيماوية باستعمال المبيدات الحشرية, ولقد أثبت علميا أن الرش المتكرر بنفس المبيدات يؤدي إلى بروز حشرات مقاومة للمبيد تماما كما هو الشأن عند النبات, ومع ذلك فإن كل البلدان تواصل استعمال تلك المبيدات.
صحيح أن هذه الظاهرة يمكن أن تحدث مع النبات المحور و لكن هل ذلك مبرر كاف لنبذها بينما نواصل استعمال المبيدات الحشرية التي لا تؤدي إلى ظهور حشرات مقاومة فحسب بل وتقضي بشكل أعمى على كل الحشرات حتى النافع منها دون أن ننسى تلويثها الشديد للمحيط, ثم أليس ذلك المعسكر المتشدق بهذه الأفكار هو نفسه ضد النباتات المحورة وراثيا, فلتفقد مقاومتها للحشرات وهكذا يتخلصوا منها؟ ألا يبدو أن هناك خفة في التفكير من طرفهم والكيل بمكيالين ؟
* القضاء على الحشرات النافعة
النباتات المحورة وراثيا لا تشكل أي خطر على الحشرات كالنحل و بعض ديدان الأرض غير المستهدفة من التحوير إلا إذا تغذت عليه ، أما المبيد الحشري فهو أعمى لا يفرق بين الحشرات مهما كان نوعها. ولقد أثبتت دراسة حديثة أجريت من طرف المعهد الفرنسي للبحوث الزراعية أن حبوب طلع أخذت من حقول شلجم محور وراثيا لمقاومة الحشرات, لا تحتوي على أي مادة مضرة (ناتجة عن التحوير) بالنحل.
* تقليص التنوع الحيوي
العديد يتهم التقانة الحيوية وخاصة التحوير الوراثي بإمكانية تسببه في تقليص التنوع الحيوي كما هو الشأن في ميدان الزراعة حيث ضاعت الكثير من الأصناف القديمة الضعيفة المردودية رغم احتوائها على خصائص التأقلم في الظروف البيئية الصعبة تاركة المجال للأصناف الأكثر إنتاجية, هذا أمر صحيح ومنطقي في آن واحد. فالمحافظة على التنوع الحيوي هو ليس من مسؤولية المزارع فقط , بل هو مسؤولية الجميع وعلى رأسهم الحكومات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية التي يجب أن تسعى كلها جاهدة إلى إنشاء بنوك لتحصين الأسس الو راثية الخاصة بكل منطقة.
إن الحكم بهذه الطريقة على المنتوج المحور غير عقلاني بل وعلى العكس يمكن أن نقول أن التحوير الوراثي سبيل جديد لتوسيع التنوع البيولوجي بحيث يمكّن من نقل مورثات جديدة إلى أصناف لم تكن تملكها من قبل.
* الآثار على المجتمعات :
* صحة الإنسان
الأخطار والآثار التي يمكن للمنتجات المحورة وراثيا أن تسببها لصحة الإنسان تبقى إلى حد الآن نظرية أكثر مما هي واقعية لان العلم لا يملك حاليا النظرة الكاملة لذلك بسبب حداثة هذا المجال العلمي, و لكن ما يجب الإشارة إليه هو أن البحوث العلمية تسير بخطى ثابتة في هذا الاتجاه لإحصاء الأخطار الممكنة والتأكد منها بل وحتى لرسم خطط مسبقة للتصدي لها في حال وقوعها. فالعديد من العلماء يقللون من تلك الأخطار على الصحة العمومية طالما أن الخطر صفر مستحيل المنال , وذلك ما ينطبق أيضا على المنتجات المحورة.
ففي ما يلي سنقتصر على وصف بعض هذه الآثار :
- نقل مورث جديد إلى كائن ما قد يسبب ظهور آثار لمورثات أخرى كانت متنحية من قبل أو لتغيير مفرط لدى المورثات الأخرى بحيث ينتج عن ذلك ظهور لبعض الجزيئات كالسموم مثلا أو زيادة إنتاجها وتركيزها في المنتوج المحور كمادة solanine عند البطاطس ومادة tomatine عند الطماطم والحمض الأروسي عند الشلجم التي توجد طبيعيا في تلك النباتات ولكن بكميات ضئيلة وكلما ارتفع تركيزها تسببت في حدوث تسمم عند تناولها.
- إمكانية ظهور مقاومة للمضادات الحيوية الناتجة عن استعمال مورثات مرافقة (كالخاصة بمقاومة المضادات الحيوية) للمورث الرئيسي قصد اثبات نجاح عملية التحوير أو عدمها. والمتفق عليه منذ سنوات عديدة هو تأقلم البكتيريا مع المضادات الحيوية باكتساب مقاومة لها بعد تكرار استعمالها وبالتالي فقدان فعاليتها. فالبعض يعتقد بأن المنتجات المحورة قد تؤدي الى نفس الظاهرة, و هنا يجب لفت الانتباه إلى أن هذه المقاربة لا تخلو من بعض الانحراف يشبه ما سلف ذكره فيما يخص الحشرات والأعشاب الضارة مع المبيدات وذلك لسببين :
* أصل المورثات المقاومة للمضادات الحيوية طبيعي موجود عند الكائنات الأخرى ومع ذلك لا أحد ادّعى بأنها ستنقل يوما إلى البكتيريا المتسببة في مرض الإنسان, وما أيسر ذلك ما دام انتقال المورثات بين الأحياء الدقيقة خاصية معروفة أيضا منذ سنين,
* ظاهرة حدوث مقاومة بعد تكرار استعمال المضادات أيضا معروفة عند كل الأطباء, فهل أثناهم ذلك عن وصفها لمرضاهم؟ طبعا لا ولكن الأبحاث دوما مستمرة للكشف عن مضادات جديدة ذات فعالية أكبر.
- إمكانية وقوع حساسيات, إن الحساسيات الغذائية هي نتاج بروتينات أو بتعبير آخر مورثات ويقال أن نقل بعض المورثات إلى الأصناف الغذائية قد يسبب حساسية, فحسب منظمة السلام الأخضر : احتمال ظهور حساسية يزيد باستعمال مورثات غريبة عن الأنظمة الغذائية الطبيعية للمجتمعات. فهل نقل مورث ما من الموز إلى الطماطم, وكلاهما غذاء طبيعي, يسبب نفس الخطر مثلما لو نقل مورث من عقرب إلى الطماطم ؟ والمشكلة هنا ليست مشكلة أمان حيوي بقدر ما هي مشكلة أخلاقية, فأي مجتمع يستطيع أن يجيز ذلك؟ إن المدافعين عن المنتجات المحورة يؤكدون بأن الخطر المتعلق بالمورثات المستعملة حاليا ضعيف جدا وهذا أيضا فيه نوع من المغالطة ما دامت المعارف الحالية غير كافية لجزم أو نفي ذلك, لذا يجب الابتعاد عن التطرف مهما كان مصدره.
ولنفرض أن المنتجات المحورة قد تسبب حقا حساسية لبعض الناس , أليس في عالمنا الكثير ممن لديهم حساسية لمادة الغلوتين (gluten) ومع ذلك فهل منعت زراعة الذرة أو القمح؟ طبعا لا, ثم هناك الكثير من الناس ممن لديهم حساسية فائقة لحبوب الطلع ومن كل نوع ؟ فهل استوجب القضاء على تلك النباتات؟ فلنكن عقلانيين في الحكم على الأشياء وألا يكون القياس بمعيارين.
* الهيمنة الاقتصادية :
هي أسوأ جانب للمنتجات المحورة وراثيا, حيث بسببها يمكن الهيمنة المطلقة على اقتصاديات المجتمعات و بدون استثناء, وفي الأصل العيب ليس في تلك المنتجات بل هو في الشركات العالمية العظمى التي تسعى وبدون أي وازع أخلاقي إلى الاستيلاء على كل شيء ومحاولة امتلاكه عن طريق شراء براءات الاختراع حتى ولو كان لمورثات مرضى كانوا في مستشفيات و بدون علمهم, إنها القرصنة الحيوية المخلة بالأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة, والأمثلة عديدة في ميدان النباتات :
مادتي الطوماتين (thaumatine) والبرازيين (brazzéine ) وهما بروتينان مستخرجان على التوالي من نوعين نباتيين إفريقيين هما : Thaumatococcus daniellii و Pentadiplandra brazzaeana. إن هذين البروتينين يمتازان بدرجتيهما العاليتين من طعم السكر ويعادل ذلك على التوالي 2000 مرة و 500 مرة السكر العادي , فهاتان المادتان (عبارة توابل) لهما قيمة اقتصادية عالية جدا, فماذا حدث لهما ؟ لقد كشفت المخابر الغربية عن مورثاتها ففصلتها واستنسختها ثم نقلتها بالتحوير الوراثي (عن طريق القرصنة والنهب الممنوعين دوليا) بعد ذلك إلى نباتات أخرى كالذرة , وباعت براءة الاختراع لشركات كبرى التي أصبحت تنتج محليا هاتين المادتين . فما هي الانعكاسات على المجتمعات الأفريقية التي لها الحق والسيادة على تلك الموارد الو راثية ؟ وكل ذلك سيؤدي حتما إلى:
- توقف أو انخفاض مبيعاتها من تلك المواد وبالتالي انخفاض مواردها من العملة الصعبة,
- تدهور زراعة تلك النباتات ما دامت لا تدر الفوائد المعهودة وهو ما قد يؤدي يوما إلى اندثارها مما يقلص التنوع الحيوي,
- احتمال استيراد المادتين من الغرب لأنها أقل كلفة من المنتوج الطبيعي وأكثر نقاء وذلك ما يؤدي حتما إلى التبعية الاقتصادية,
ولا ننسى أيضا الخطر للمنتجات الوراثية القادمة من وراء البحار في شكل بذور فإنه الأكثر فتكا باقتصاد المجتمعات النامية بحيث يستهويها لأنه لا يتطلب تدخلا كثيرا في الحقول مثل المزروعات العادية مما يسهل من مهمة المزارعين, بل وقد يغريهم ذلك فيجعلهم أكثر تبعية للشركات المنتجة, وهكذا إلى أن يتركوا تماما أصنافهم المحلية, وهنا تملى عليهم شروط في غاية القسوة فلا هم يستطيعون ترك المنتجات و لا هم يستطيعون الرجوع إلى أصنافهم التي أضاعوها, وهذا أمر واقع حتى في أمريكا حاليا حيث بدأ العديد من المزارعين يشتكون من هذه التبعية ومن الشروط القاسية المفروضة عليهم , فمع الوقت ومع تغير النظم الزراعية لهؤلاء المزارعين والشروط المفروضة قد يلجأ البعض منهم للاستدانة من تلك الشركات التي لن تتوان في قبول ذلك ومع الوقت قد يضطر المزارع إلى رهن أرضه فيصبح بذلك مجرّد عامل بسيط فيها لحساب تلك الشركات التي ستزداد بذلك غنى و المزارع فقرا .
فهل من خطر أعظم من هذا؟ فلا عجب أن تكون كل الأخطار السالفة الذكر مجرد ضوضاء مبرمجة من تلك الشركات التي لم تعد تخفي نواياها, حتى لا يتسنى للكثير من الشعوب التفكير فيما هو أخطر ألا وهو تبعيتها اقتصاديا, فيفتح بذلك عهد جديد للرجوع إلى الإقطاعية القديمة المتوحشة وعلى نطاق واسع قد يعجز العقل عن تصورها .
* الأمن الغذائي :
إنها كلمة حق يراد بها باطل وهو ما أسلفنا ذكره في النقطة السابقة, فمن لم تغنه سواعده لن تغنيه سواعد الآخرين إلا بمقابل قد يكون على حساب شرفه ووجوده بكل بساطة.
الخاتمة :
لا شك بأن للمنتجات المحورة وراثيا محاسن ومساوئ , فوائد وآثار قد تكون سلبيـة وهذه حال كل منتوج جديد . فالتعامل المثالي والعقلاني إذن مع هذه المنتجات ليس بقبولها أو رفضها كلها, أو الكون معها أو ضدها, وإنما من الصواب أن يدرس الأمر حالة بحالة ولا يجوز تعميم الأحكام.
إن هذه المنتجات عديدة اليوم ومستخدمة في شتى مجالات الاقتصاد والتطور البشري : الزراعة, الصيدلة ، المحافظة على البيئة… بل والكثير منها مسوق ومستهلك من طرف الإنسان نفسه. فهل يحق لأحد مهما كان أن يحرم أمة أو شعبا من استعمالها فيما ينفع وخاصة إذا كانت الحاجة من غذاء أو دواء ماسة لذلك ؟
فلكي تهدأ النفوس ترتاح الضمائر يجب إرساء قواعد سليمة لدراسة مثل هذه الأمور بعيدا عن التعصب والانفعال غير المبرر وبعيدا عن القيل والقال من طرف من هب ودب , ولن يتسنى ذلك إلا بإسناد الأمر لأهله مثلما هي الحال في الكثير من البلدان المتقدمة , كما يجب أيضا الابتعاد عن المغالاة والمزايدة في بعض الأمور بدون علم :
- عدم الخلط بين المنتجات المحورة وراثيا ومشاكل الصحة الأخرى والناجمة عن ظواهر أخرى كمرض جنون البقر والديوكسين (dioxine) والهرمونات المستعملة في تسمين المواشي…
- المعاداة العمياء للمنتجات المحورة وراثيا بحكم أنها منتجة من طرف شركات عالمية مشبوهة ليس بالتفكير السليم لا علميا ولا أخلاقيا ولا يخدم لا حاجة الأمم من تلك المنتجات ولا التقدم العلمي والتكنولوجي .
- تصنيف المنتجات المحورة وراثيا ضمن المنتجات غير الطبيعية غير مقبول لأن كل المورثات المستعملة إلى حد الآن طبيعية , ولكن يجب مراعاة الجوانب الأخلاقية في عملية التحوير وذلك احتراما لعادات الأمم وعقائدها.
- حدوث مشاكل صحية (تسمم, حساسيات..) مع عدد ضئيل من الأفراد لا يجب تعميمه إلى كل البشرية بدون دراسة علمية معمقة لأن ذلك كثيرا ما يحدث أيضا مع ما يسمى بالمواد الطبيعية . ولا يجب أن ننسى بأن الخطر- صفر غير ممكن في ظل تطور البشرية.
- الإنسانية لا تملك إلى حد الآن الرؤية العلمية اللازمة لإصدار أي حكم نهائي على المنتجات المحورة وراثيا, بل لا يمكن ذلك إلا على المدى البعيد, فأي تسرع لا يمكن أن يخدم أحدا. ألم تفرض البلدان الأوروبية حظراً ورقابة شديدة على هذه المنتجات لعدة سنين ؟ فها هي قد بدأت في التخفيف منها عندما لم تجد المبررات العقلانية لذلك وخاصة لما علمت مدى تأخرها عن الركب العلمي في هذا المجال وما كان ذلك من عاداتها.
- أكبر خطر للمنتجات المحورة وراثيا يخص البلدان النامية والفقيرة بحيث يمكن للشركات العالمية الكبرى أن تغريها في أول الأمر بهذه المنتجات لتفرض عليها هيمنتها فيما بعد, إما عن طريق استنزاف مواردها الوراثية بمقابل بخس أو حتى بغير مقابل أو عن طريق إغرائها بعض الوقت ببذور رفيعة الجودة, عالية الإنتاج وذات استعمال سهل, حتى توقع بها في التبعية الكاملة فتنقض عليها.
إن الكثير من العلماء متفقون حاليا على فحص الأجسام المحورة وراثيا حالة بحالة, فإذا ثبت أن أحدها يشكل حقيقة خطرا ما تخلصوا منه وأوقفوا نشره, وحتى الشركات الكبرى مرغمة على ذلك مثل MONSANTO التي سحبت منتجاتها الحاملة لمورث تعقيم البذور. وهم متفقون أيضا, في حالة عدم الترجيح بين الفوائد والمخاطر التي قد تنجم عن تلك المنتجات, على عدم التخلص منها بل حصرها في المخابر ومواصلة البحوث في شانها إلى أن يتم التأكد التام منها.
والأمر الذي لا يجب المماطلة فيه من طرف بلداننا هو إرساء قوانين صارمة و واضحة المعالم في مجال التحوير الوراثي كما هو الشأن في البلدان المتقدمة , فبدونها لا يمكن للبحوث أن تتقدم في هذا الاختصاص, ولا للساسة أن يقرروا, ولا لمراكز مراقبة النوعية إن وجدت أن تراقب, ولا للمستورد أن يكون أمينا فيما يستورد . ومن المستحسن أن يتم وضع تلك القوانين بالتشاور مع البلدان المجاورة (إطار قانوني جهوي) فالمورثات لا تعرف حدودا جغرافية وهي تنتقل عبر حبوب الطلع بكل الوسائل المتاحة من رياح و ماء وطيور وحشرات وحتى عن طريق تنقلات الإنسان وما أكثرها في زماننا..
وأخيرا , وما دامت للمنتجات المحورة وراثيا منافع عديدة (دون نسيان سلبياتها) وما دامت أيضا مفروضة علينا ألا يجب التفكير وبجدية في وضع برامج بحوث في هذا المجال لتطوير مايمكن منتجات محورة تخدم مصالحنا الاقتصادية والبيئية ودون المساس بعاداتنا ومعتقداتنا, فأبواب العلم مفتوحة للجميع والله عزّ وجلّ يقول وهو أصدق القائلين : (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) والسلطان هنا هو العلم.
0 Comments :
Post a Comment