قراءة في كتاب ظاهرة الشعر الحديث
يتكون الكتاب من 271ص، وهو مقسم إلى أربعة فصول، وكل فصل يتفرع إلى مجموعة من الأقسام. وجاء توزيع مضامين المؤلف على الشكل التالي:
الفصل الأول: من (ص5 إلى ص53 ): التطور التدريجي في الشعر الحديث.
وقسمه إلى قسمين:
الأول: تحت عنوان نحو مضمون ذاتي، تطرق إلى تيارين: الإحيائي، والذاتي، وتناول ضمن هذا التيار الأخير: جماعة الديوان، وتيار الرابطة القلمية، وجماعة أبولو.
الثاني: خصه للحديث عن الشكل الجديد في الشعر العربي الحديث.
الفصل الثاني: من ص55 إلى ص105: تجربة الغربة والضياع. بحث في هذا المحور عن أشكال الغربة والضياع في الشعر الحديث، والتي تمثلت في: الغربة في الكون، والمدينة، والحب، والكلمة، إضافة إلى الغربة في المكان، والزمان، والعجز، والحياة، والموت، والصمت.
الفصل الثالث: من ص107 إلى ص190: تجربة الحياة والموت، تناولها عند كل من أحمد سعيد أدونيس، وخليل حاوي، وعبد الوهاب البياتي، الذي استقصى العديد من المواضع في تجربته الشعرية: كمنحى الأمل، والإنتظار، وخط الموت، والحياة، والإستفهام، والرجاء، والتمني، والشك.
الفصل الرابع: من ص195 إلى ص256: الشكل الجديد. تناول فيه مجموعة من المحاور، وهي: تطور اللغة في الشعر الحديث، والنفس التقليدي في هذه اللغة، والبعد عن لغة الحديث اليومي، والسياق الدرامي للغة الشعر الحديث، والتعبير بالصورة في هذا الشعر، وتطور أسسه الموسيقية، وفي هذا الإطار تحدث مسألة الزحاف، وتنويع الأضرب، والتدوير، ونظام القافية أما الخاتمة فخصصها للإجابة على مسألة الغموض، وتبريرها.
ـ 2 ـ
تحليــــل الكتــــــاب
(جرد القضايا والموضوعات)
الفصل الأول: التطور التدريجي في الشعر الحديث:
القضية الأولى: الشعر العربي بين التطور، والتطور التدريجي.
في هذا السياق أشار الباحث إلى أنه بالفعل حدثت حركية مهمة في الحركة الشعرية العربية، وأرجعها إلى سببين اثنين:
الأول: الإحتكاك الذي حصل بين الثقافة العربية، والثقافات الأجنبية الأخرى (يقصد الثقافة الغربية)
الثاني: توفر مناخ من الحرية، فتح المجال أمام الشعراء للتعبير عن تجاربهم.
وأشار إلى أن هذه الحرية التي ينعم بها الشاعر الحديث، هي نفسها التي كان يتنفس فيها الشاعر العباسي: كالمتنبي، وأبي تمام، وأبي نواس.. وشعراء الأندلس (الموشحات).
وكان الهدف المتوخى عند الشعراء قديما وحديثا هو العودة إلى التجربة الذاتية باعتبارها أساس التجربة الشعرية، ورافدها الأساسي.
القضية الثانية: علاقة الشعر بالنقد.
يعتقد الباحث أن العلاقة بين الشاعر والناقد يحكمها التعقيد، ذالك أن الناقد، في العصور القديمة (العصر العباسي)، يستند في أحكامه على النص الشعري بمعايير، ومرجعيات تقليدية، فالعصر الجاهلي يمثل قمة الشعر العربي، ومن هذا الشعر استنبط ما يسمى ب:"عمود الشعر"، وهو القيد الذي عطل الكثير من المواهب الشعرية، واعتبر الحرية الأساس الذي تقوم عليه كل تجربة شعرية جديدة.
القضية الثالثة: خصوصية التجربة الشعرية الحديثة.
لاحظ الكاتب أن هناك ما يميز حركة الشعر الحديث العربية، عن الحركات التجديدية السابقة لها في العصر العباسي، وفي الأندلس. ويرى أن المناخ الذي ولدت فيه هذه الحركة، كان متزامنا مع نكبة فلسطين. وحدد الأشكال التي ظهرت بها هذه الحركة في شكلين:
الأول: حركة شعرية واجهت الواقع التقليدي العربي المتماسك، فكانت حركة بطيئة جدا(جماعة الديوان ـ تيار الرابطة القلمية ـ جماعة أبولو ).
الثاني: حركة واجهت المجتمع العربي بعد أن تفككت بنياته، وفقد تماسكه، فجاء تيار التجديد قويا وعنيفا وجارفا.
ولكي يوضح أكثر هذه الأفكار، أو القضايا، أو الفرضيات التي طرحها في مقدمة كتابه، فقد عمد إلى تقسم الفصل إلى قسمين:
القسم الأول: سيدرس فيه التحولات/ الموضوعات الجديدة التي تسللت إلى مضامين القصيدة الحداثية.
القسم الثاني: سيدرس فيه قضية الشكل كما طرحته هذه التيارات وما قام حوله من خصومات ونقد.
القســـــــم الأول
الحركة الإحيائية
من أهم خصائصها، محاكاة القدامى، والسير على خطاهم، والنسج على منوالهم. وأهم هذه الحركات:
1 ـ التيار الإحيائي: (ويسمى كذالك المدرسة الكلاسيكية، التيار المحافظ، التيار التقليدي).
وكان من أهداف هذا التيار تنظيف القصيدة العربية من كل العوالق التي شوهت معالمها الجمالية طيلة فترة عصر الإنحطاط وبالتالي العودة بها إلى منابعها الصافي عند شعراء العصر العباسي، وشعراء الأندلس، وذالك باقتفاء أثرهم، في المعاني، والأفكار. وأرجع الباحث الأسباب كون أغلب شعراء هذا التيار لم يتصلوا بالثقافة الأجنبية، مما جعل تأثرهم بها ضئيلا، وأورد اسم البارودي كأحد ممثلي هذا الاتجاه.
2 ـ التيار الذاتي:
كان البحث عن الذات الفردية لدى الشاعر الإحيائي من أهم العوامل التي عمات على تغيير مسار الشعر العربي، وتجنيبه البقاء رهينة للقدماء. وتبلور هذا الإتجاه عند التيارات الشعرية التالية:
2/1 ـ جماعة الديوان:
تشكلت من زمرة من الشعراء الذين أخذوا على عاتقهم التبشير بقيم جديدة، تتماشى والتطورات التي عرفها المجتمع المصري بعد ظهور الطبقة البورجوازية على مسرح الأحداث. ويمثل هذا التيار كل من: عبد الرحمان شكري، عباس محمود العقاد، إبراهيم عبد القادر المازيني. انطلق هؤلاء من فكرة مفادها: "الشعر وجدان". ثم اختلفوا في تفسير دلالته:
ـ شكري فهمه على أنه التأمل في أعناق الذات.
ـ المازيني رآه في كل ما تفيض به النفس من شعور وعواطف وإحساسات.
ـ العقاد اعتبره مزاجا من الفكر والشعور.
وانتهى أحد أقطاب هذه الجماعة إلى القول أن الشاعر إذا لم تعرف حياته من ديوانه فما هو بشاعر ولو كان له عشرات الدواوين.
وأرجع الباحث إيمان جماعة أبولو بقيمة العنصر الذاتي إلى عاملين:
الأول: شخصية الفرد المصري التي تعاني من انهيار تام على مختلف الأصعدة مما تطلب منه رد الإعتبار إلى ذاته
الثاني: تشبع رواد أبولو بالفكر الحر، الذي بسط ظله على العقل الغربي في تلك الفترة من تاريخ الأمة العربية.
2/2 ـ تيار الرابطة القلمية:
تأسست هذه الرابطة من أدباء وشعراء جمعتهم الغربة والبعد عن الأوطان. كان ذالك في أمريكا. وانطلق أقطاب هذا التيار ـ ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران ـ من مفهوم موحد للشعر باعتباره "وجدان"، ولكنه وجدان لا يقف عند حدود الذات، بل يتجاوزها ليشمل الحياة والكون. لقد آمنوا بوجود علاقة خفية تربط الفرد بالكون، وتقربه من الذات الإلهية. ولاحظ الباحث أن أقوال هؤلاء الشعراء تتناقض مع أفعالهم، ذالك أن أغلبهم هربوا من الناس، ومن الواقع، ومن الحضارة، وغنوا أحلامهم للغاب، والخلاء، حيث ـ من وجهة نظرهم ـ الصفاء، والنقاء:
ـ جبران هرب إلى الطبيعة يناجيها ويبث لها أحلامه.
ـ ميخائيل نعيمة هرب إلى ذاته يتأملها.
ـ إيليا أبو ماض اعتصم بالخيال.
وينتهي الباحث إلى خلاصة مؤداها أن ما في شعر هؤلاء من هيام بالطبيعة، والحنين إلى الصبا، واللهو في سوريا، وفي لبنان، ليس سوى لون من ألوان الهروب التي يلجأ إليها الشاعر الوجداني عندما يحتمي بذاته الفردية كشكل من أشكال المواساة، وتعويض عن قطعه الصلة بينه وبين الحياة.
3/3ـ جماعة أبولو:
اعتُبر أحمد زكي أبو شادي بمثابة الأب الروحي لهذه الجماعة التي تأسست سنة 1932م. وانطلقت من اعتبار ذات الشاعر هي المصدر الرئيسي لكل ما ينتجه من شعر. ومن أقطاب هذه الجماعة، وما تفرد به كل واحد منهما، وميز شعره ذكر الباحث:
ـ إبراهيم ناجي: دار أغلب شعره حول المرأة، والحب.
ـ أبو القاسم الشابي: هام بالجمال، وعشق الحرية.
ـ عبد المعطي الهمشري: ولع بالطبيعة، واستشراف ما وراء الحياة، من خلال الحياة.
ـ علي محمود طه: شعره حافل بمظاهر البهجة والمسرة، منغمس في متع الدنيا، وملذاتها.
ـ أحمد زكي أبو شادي: كان حتى في شعره الموضوعي ذاتيا.
القسم الثانـــــــــــــي
نحو شكل جديد
فرضت المضامين الجديدة التي نحت منحى جديدا على الشاعر العربي الحديث إعادة النظر في الموروث الشكلي للشعر العربي، فكان لزاما عليه أن يتوسل للتعبير عن تجربته الذاتية، بأشكال مختلفة من الصيغ التعبيرية، والصور الفنية، والإيقاعات الموسيقية. وترتب على ذالك أن جاءت القصيدة الوجدانية، أكثر يسرا وسهولة من القصيدة الإحيائية المتأثرة بالتراث القديم كما نلمسه في القاموس الشعري لدى محمود سامي البارودي المثقل بمفردات البيئة الصحراوية البدوية: (القطا ـ الكاسرات ـ الذئاب ـ أسماء النباتات ...).
القصيدة الحداثية أصبحت أكثر قربا من الحديث اليومي للناس، وتجلت هذه الظاهرة أكثر في اللغة، عند كل من عباس محمود العقاد، في ديوانه: "عابر سبيل". وفي شعر إيليا أبو ماض. كما أن الشاعر الحديث وظف الصور البيانية بربطها بتجربته الشعرية ربطا وثيقا لشرح عواطفه، وبيان حاله، كما عند إبراهيم ناجي في ديوانه: "ديوان ناجي"، وليست مجرد وسائل للزينة. كما أن القافية لم تعد فقط وقفة عروضية شكلية، وإنما ارتبطت بأفكار الشاعر، وعواطفه.وينبهنا الباحث أن هذه المكتسبات لم تتحقق إلا لقلة من الشعراء المتميزين.
ومع ذالك فقد ظلت المحاولات التجديدية محتشمة، ومحبوسة في حيز ضيق، ويرجع الأسباب إلى الحملة العنيفة التي شنها النقاد المحافظون على هذه الحركة. فهم ينطلقون من مفهوم محدد للغة باعتبارها موجود مقدس، وأي مساس بها يعتبر مساسا بالمقدس، ومن هؤلاء النقاد: مصطفى صادق الرافعي، طه حسين، وكذالك العقاد الذي تحامل على لغة الحركة التجديدية في بعض مقالاته، وإن تراجع/ارتد عن آراءه في آخر المطاف. ويكمن السر في تراجع هؤلاء النقاد عن مواقفهم أنهم لم يعثروا على حجج قوية تقف في وجه التطور والتجديد.
وتحامل النقاد المحافظون أيضا على التجارب الشعرية التي مزجت بين الأوزان المختلفة في قصيدة واحدة، الشيء الذي لا تستسيغه الأذن التي تعودت على سماع الشعر التقليدي، كما فعل إيليا أبو ماض في قصيدته: "المجنون"، التي هاجمها طه حسين، واعتبرها ضرب من الجنون.
لقد حققت حملة المحافظين غاياتها، وأثرت كثيرا في مسار الحركة التجديدية، فتراجع بعض الشعراء عن طموحاتهم التجديدية، في حين توقف البعض نهائيا عن نظم الشعر كما فعل صالح جودت بعد صدور ديوانه الأول، حيث قال: "عزيز علي والله أن أودع الشعر، وأسكب آخر قطراته من قلبي، وأقف موقف الجندي الذي يطمع في الإنتصار، فيلقي السلاح، وينتحر". (مجلة أبولو/ المجلد الثاني ص269).
وانتهت هذه التيارات التجديدية نهاية محزنة ـ على حد تعبير الباحث ـ فالمضمون بقي مرتبطا بنغمة الكآبة، والأنين، والتوجع، والشكوى. كما أن الشكل فشل في الوصول إلى صورة تعبيرية ذات مقومات مكتملة، وناضجة، وذالك بسبب تحامل المحافظين عليها، هذا التيار المحافظ هو من سيتراجع، ويستسلم بعد هزيمة1948م، وانتصار الكيان الصهيوني. ومع ذالك فقد عاود الشعر العربي محاولة التجديد متسلحا بالحرية التي أصبح الشاعر الحديث يمتلكها، ليخوض تجربة أخرى رائدة برؤية قوامها: الإيمان بالإنسان والمجتمع.
الفصـــل الثانــــــــــــي
تجربة الغربة والضياع
1. حركة الشعر الحديث تجربة الغربة والضياع:
التمهيـــــــــــد:
تحدث الباحث العوامل التاريخية، والسياسية التي أدت إلى خلخلة المنظومة الإجتماعية، والفكرية التقليدية السائدة بعد هزيمة الجيوش العربية سنة 1948م، وما رافق ذالك من إعادة مساءلة البُنى الثقافية التي كانت مهيمنة على العقلية العربية، هذه العقلية التي انفتحت في جزء منها على التيارات الفكرية الغربية، كالفلسفة، الأدب، النقد.. فراحت تبحث عن الأجوبة وراء الهزيمة، وبالأخص الشاعر الذي كان وقع الهزيمة قاسيا عليه، وآمن أن الخلاص ( التقدم والتحضر)، يكمن في الإلمام بكل أنواع المعارف الإنسانية. وإذا ما تتبعنا الروافد التي استقى منه الشاعر الحديث ثقافته وجدناه متنوعة المشارب:
1.1ـ روافد ثقافية معرفية: الفلسفة، علم النفس، التاريخ...
2.1 ـ روافد شرقية روحية: الديانات الهندية، الدينات الفرسية، وتأثروا بالشاعر الهندي طاغور، والشعر الصوفي، عند جلال الدين الرومي، والجامي...
3.1 ـ روافد شعرية التزمت بقضايا الإنسان: أوودن، نيرودا، إيلوار..
4.1 ـ الثقافة الشعبية: سيرة عنترة، أبي زيد الهلالي، سيف بن ذي يزن، ألف ليلة وليلة..
5.5 ـ التراث (الشعر العربي القديم، والقرآن): استمد منهما المهارات اللغوية.
تفاعل الشاعر الحديث مع كل هذه الروافد، ونجح في المزج بينها، فخرج برؤية جديدة للشعر. يقول أدونيس: "الإبداع الشعري وسيلة لاكتشاف الإنسان، والعالم، وأنه فعالية جوهرية تتصل بوضع الإنسان ومستقبله إلى المدى الأقصى". (أدونيس/ تجربتي في الشعر، مجلة الآداب، مارس 1962م، ص196).
2. علاقة الشكل بالمضمون:
إن المضامين الجديدة التي دخلت الشعر العربي الحديث، جعلت من هذه التجربة تتسم بالخصوبة، والتفرد، فكريا وشعوريا، فكان لزاما عليها أن تفجر الشكل القديم الذي لم يعد يلاءم لتجربتهم الشعرية، بل يحد من انطلاقتها، وبعد محاولات، وتجارب عدة انتهى شعراء الحداثة إلى شكل جديد يقوم على أساس موسيقى هو:التفعيلة، واستقر هذا الشكل عند كل من بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور. واعتبر الباحث أن الشكل تابع للمضمون، ذالك أن المضامين الخصبة و المتطور في الشعر هي وحدها القادرة على على تحقيق الوسائل الفنية الجديدة، وتبرير وجودها. وتتبع الباحث أهم المضامين الجديدة التي ارتبطت بالحركة الشعرية الحديثة، وحددها في اتجاهين:
الأول: تجربة الضياع والغربة:
حصر الباحث أسباب هذه الظاهرة الملفتة للإنتباه في الشعر الحديث في:
أ ـ التأثر ببعض شعراء الغرب، مثل: توماس إليوت، خصوصا في قصيدته الأرض الخراب.
ب ـ أعمال بعض الروائيين الجدد مثل: جان بول سارتر، ألبير كامو. والنقاد الذين ترجمت أعمالهم إلى اللغة العربية، مثل: كوين، وويلسن.
ج ـ العامل المعرفي، فاصطدام الأفكار المثالية بالواقع، تنعكس على النفس، فتصاب بالإحباط، والإنكسار
وأهم ممثلي هذه التجربة: أدونيس، وصلاح عبد الصبور، وعبد المعطي حجازي.
كما تتبع الباحث المظاهر التي تجلت فيها ألوان الغربة، والتي تمثلت في:
أ ـ الغربة في الكون:
هي نتاج نكبة فلسطين، وضياع أمجاد التاريخ، والشعور بالذل، والمهانة، فاعتزل الشاعر الحياة، وجرب وحدته، وغرق في غربته. ظهر هذا في شعر صلاح عبد الصبور، وأدونيس، ويوسف الخال....
ب ـ الغربة في المدينة:
أحس الشاعر العربي الحديث أن هندسة، وواقع مدينته قد تغير وإلى الأبد، بفعل غزو المدن الأوروبية لها، وأصبحت لا تناسب واقع العرب المهزوم، فجاء شعره تعبيرا عن هذا الإحساس بالغربة، فالمدينة قاسية، ومفرغة من كل إنسانية، وما يزيدها قسوة وعنفا عدم قدرة الشاعر على الهروب منها، فهي تحاصره، وتخنقه. عبر عن هذا كل من: أحمد عبد المعطي حجازي، بدر شاكر السياب...
ج ـ الغربة في الحب:
يرى الباحث أن الشاعر الحديث فشل في خلق علاقة حميمة مع المرأة، فالحب تحول إلى مرارة مميتة، فلا وجود لامرأة تحقق للشاعر ذاته، وتعيد له توازنه المنشود. وتمثل هذا الفشل المريع في أشعار خليل حاوي، والسياب، وصلاح عبد الصبور. ألم يقل عبد المعطي حجازي: "إن وقت الحب قد فات".(قصيدة نهاية، من ديوان: "لم يتبق إلا الإعتراف، ط/1، ص75 ـ 76).
د ـ الغربة في الكلمة:
إيمان الشاعر الحديث بأن الكلمة بمقدورها أن تغير، واكتشافه للحقيقة المرة، وهي أن الكلمة عاجزة على الفعل والحركة، ولن تستطيع تلبية طموحاته، جعلت يدخل حالة من اليأس قادته إلى الإغتراب، كما هو الحال عند صلاح عبد الصبور، وعبد الباسط الصوفي..
ذ ـ ومن خلال تحليله لقصيدة: "فارس النحاس"، لعبد الوهاب البياتي اكتشف الباحث ألوان أخرى من الغربة: (ديوان سفر الفقر والثورة، ص41)، وهي كالتالي:
أ ـ الغربة في المكان: الإدمان على التنقل والسفر، لعل الشاعر يجد ذاته.
ب ـ الغربة في الزمان: عجزه على التواصل مع الماضي، أو المستقبل.
ج ـ إحساسه بالعجز: لا يملك الإمكانيات ولا القدرة على خوض غمار الحياة.
ح ـ تشبثه بالحياة: فهو عاجز على نيل شرف الشهادة.
خ ـ الشعور بالموت: عجزه على الكشف عن تناقضات واقعه.
ذ ـ الإحتماء بالصمت: لم يتبق له غير الصمت يلوذ به ما دامت الكلمة عاجزة عن إحداث التغيير المنشود.
كل هذا يكشف عن التمزق النفسي والوجداني للشاعر الحداثي، والتمزق الروحي للإنسان العربي.
الفصـــــل الثالـــــــــث
تجربة الحياة والموت
كانت لهزيمة 1948م، ونكبة فلسطين، والحركات والتغييرات الهائلة التي عرفها المجتمع العربي أثره الكبير في تشكيل رؤية الشاعر العربي والتي طبعها اليأس، والضياع، والقلق، والإحساس بالغربة، التي أثمرت تجربة الموت. إلا أنه وسط هذا الدمار الشامل، والإحساس بالاانتماء، لم يفقد الشاعر الحداثي الأمل في المستقبل، فظل يحلم بالتجديد، والبعث: بعث المجتمع العربي من موته.
هكذا تراوحت تجربة الشاعر الحديث بين الأمل، واليأس.لم يستسلم للواقع المهزوم، بل كان إيمانه بالبعث، لا تفارق فكره وإحساسه، وانتهى بعد صراع طويل مع ذاته إلى تبني نظرة أكثر واقعية، وارتهنت تجربته الشعرية بمدى إيمانه بجدلية الحياة والموت.
فالشاعر الحديث يؤمن بأن "عظمة الشاعر وقوته، تكمنان في قدرته على تحمل النبذ، والغربة، والوحشة، والصمت، في عالم حكمت عليه فيه الآلهة بهذا العذاب، لأنه سرق منها النار الإلهية لإخوته البشر". (عبد الوهاب البياتي، تجربتي الشعرية، 1868م، ص47).
أما أدونيس، فآمن بأن "الإنسان هو جدال بين حياته، وموته، بين بدايته، ونهايته، بين ما هو، وما سيكون". (أدونيس، تجربتي الشعرية، 1966م، ص196 )، هذه الجدلية هي التي من شأنها أن تخلق الشاعر الثوري، وهي الثورة المطلقة، ليست محددة بزمان أو مكان.
وتجربة الحياة والموت باعتبارها مشدودة إلى المستقبل، ومرتبطة بالحاضر، هي نوع من المعاناة المتضمنة للموت، وحافز مفعم بالحياة والتجدد مستقبلا، واعتبر الباحث هذه التجربة في الشعر العربي فريدة من نوعها في تاريخه، باستثناء بعض محاولات الشعراء المهجريين التي عبرت عن فكرة تناسخ الأرواح، كما تجلت في أقصوصة: "رماد الأجيال والنار الخالد، لجبران. (عرائس المروج، المجموعة الكاملة لجبران، ج/1ن ص47). وعند ميخائيل نعيمة، في قصيدته: "أوراق ا
0 Comments :
Post a Comment