الخصائص العامة للشريعة الإسلامية | Moroccan Daily News

الخصائص العامة للشريعة الإسلامية

الخصائص العامة للشريعة الإسلامية

أ- روى أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال “لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً[1] عُرْوَةً فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ “.
ب- من المسلم به أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده، لأنه عاجز عن توفير جميع مقتضيات حياته بنفسه.. بل هو في احتياج دائم لغيره ليكمل له حاجياته. لذا يقال بأن الإنسان اجتماعي بطبعه، أي أنه يميل إلى الاجتماع مع غيره..
الناسُ للناسِ من بدوٍ وحاضرةٍ                   بعض لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ
 لذا تظهر حاجة الفرد للعيش في جماعة يساعد كل فرد منها الآخر في توفير جزء من مقتضيات الحياة. غير أن هذا الاجتماع والعيش في مجتمع يتطلب قانوناً لتنظيم حياة الجماعة، إذ أنَّ البشرية جُبلت على الأثرة وحب الذات وحب الرياسة والهيمنة على الغير، فكل واحد يبتغي استيفاء حظه كاملاً غير منقوص. فلو ترك الناس بغير تشريع يضبط سير حياتهم لاستبد كل واحد برأيه، واتبع شهوته، وجار على حقوق غيره. لذا كان التشريع ضرورياً لضبط حياة المجتمع، والتوفيق بين الميول المختلفة والنـزعات المتباينة. من أجل هذا كله جبل الله الجماعات البشرية – منذ القدم – على الشعور بحاجتها إلى نظم تحفظ عليها أسباب الحياة وتنظم سيرها.
ج – وهذه النظم إما أن تصطلح عليها الجماعة وتتفق فيما بينها على مجموعة من القواعد التي تنظم سير الحياة في هذه الجماعة وتضبط الحقوق والواجبات بين أفرادها. وتسمى هذه النظم بالنظم الوضعية أو الشرائع الوضعية، بمعنى أنها من وضع البشر أنفسهم. وقد تكون هذه النظم والقواعد مستمدة من شرع الله سبحانه وتعالى، هو الذي شرع معالمها وحدودها لعباده عن طريق الوحي وتسمى التشريع السماوي، أو الشريعة السماوية. فماذا نعني بكلمة ” الشريعة ” ؟
د- الشريعة في اللغة وردت بمعنيين:
الأول: الطريقة المستقيمة ومنه قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) الجاثية 018
الثاني: مورد الماء الجاري الذي يقصد للشرب منه، ويقال شرعت الإبل، إذا وردت شرعة الماء، ومنه الشارع لأنه طريق إلى القصد.
وشرعا: الشريعة هي الأحكام التي سنها الله للعباد عن طريق واحد من أنبيائه. فالشريعة اليهودية مثلا هي الأحكام التي سنها الله للعباد عن طريق موسى عليه السلام، والشريعة الإسلامية هي الأحكام التي سنها الله للعباد عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم. وقد سميت هذه الأحكام شريعة، لأنها مستقيمة محكمة الوضع، لا ينحرف نظمها، ولا تلتوي مقاصدها، فهي كالجادة المستقيمة، غير المعوجة، كما أنها شبيهة بمورد الماء فكما أن في الماء حياة الأبدان فإن الشريعة بها حياة النفوس وسعادتها.
2- خصائص الشريعة الإسلامية:
* وللشريعة الإسلامية خصائصها الخاصة بها التي تميزها عن غيرها تمييزاً واضحاً بارزاً، فهي من حيث مصدرها من عند الله أي شريعة ربانية، وهذه هي خصيصتها الأولى. وهي من حيث نزوعها إلىالمثالية والأخلاقية دون إغفال للواقع مثالية وهذه هي خصيصتها الثانية وواقعية وهذه هي خصيصتها الثالثة.وهي من حيث مدى ونوع العلاقات التي تنظمها والأفعال التي تحكمها شاملة وهذه هي خصيصتها الرابعة.
الخصيصة الأولى: الربانية:
أ- تمتاز الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية بما لها من صفة الربانية، أي إنها من عند الله. ويترتب على كون الشريعة الإسلامية من عند الله:
أولاً: كمالها وخلوها من معاني النقص والجهل والهوى والظلم، لسبب بسيط واضح هو أن صفات الصانع تظهر في ما يصنعه.. ولما كان الله تعالى له الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله ويستحيل في حقه خلاف ذلك، فان أثر هذا الكمال يظهر في ما يشرعه من أحكام ومناهج وقواعد، وبالتالي لا بد أن يكون كاملاً. وهذا بخلاف ما يصنعه الإنسان ويشرعه فإنه لا ينفك عن معاني النقص والهوى والجهل والجور، لأن هذه المعاني لاصقة بالبشر ويستحيل تجردهم عنها كل التجرد وبالتالي تظهر هذه النقائص في القوانين والشرائع التي يصنعونها.فمثلاً انحازت الشيوعية للفقراء في مواجهة الأغنياء واعتبرتهم مجرمين، وجاءت الرأسمالية وانحازت لأصحاب المال في مواجهة الفقراء. أما شريعة الإسلام فلم تنحاز لأحد ضد أحد بل جاءت لكل البشر سواء. روى الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ[2] الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا فَالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ قَالَ اللَّهُ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
ثانيا: ويترتب أيضا على كون الإسلام من عند الله، أنه يظفر بقدر كبير جداً من الهيبة والاحترام من قبل المؤمنين به، مهما كانت مراكزهم الاجتماعية وسلطاتهم الدنيوية، لأن هذه السلطات وتلك المراكز لا تخرجهم من دائرة الخضوع لله تعالى واحترام شرعه، وطاعة هذا الشرع طاعة اختيارية تنبعث من النفس وتقوم على الإيمان ولا يقسر عليها المسلم قسراً. وفي هذا ضمان عظيم لحسن تطبيق القانون الإسلامي وعدم الخروج عليه ولو مع القدرة على هذا الخروج. فتفرغ على تشريعاتها قدسية لا نظير لها، وتغرس في نفوس أتباعها حبها واحترامها، احتراماً نابعاً من الإيمان بها لا من رهبة السلطة التنفيذية وأجهزتها، لأن شارعها هو الذي خلق الناس وهو أعلم بما ينفعهم، وما يصلح لهم ويصلحهم، قال تعالى (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) – الملك 14 – أما القوانين والمبادئ الوضعية التي شرعها الإنسان فإنها لا تظفر بهذا المقدار من الاحترام والهيبة، إذ ليس لها سلطان على النفوس ولا تقوم على أساس من العقيدة والإيمان كما هو الحال بالنسبة للإسلام ولهذا فإن النفوس تجرؤ على مخالفة القانون الوضعي كلما وجدت فرصة لذلك وقدرة على الإفلات من ملاحقة القانون وسلطان القضاء ورأت في هذه المخالفة اتباعاً لأهوائها وتحقيقاً لرغباتها. فنجد من يتحايل على القانون ويتهرب منه، بينما لا نجد من يتحايل على الشريعة حتى عندما كتب بعض فقهاء السادة الأحناف عن الحيل الشرعية – من باب المخارج الشرعية والرخص – للتهرب من بعض الأحكام الشرعية رد عليهم جمهور العلماء بفساد ما كتبوه وعدم صلاحه ديانة. إن القانون لا يكفي أن يكون صالحاً بل لا بد له من ضمانات تكفل حسن تطبيقه، ومن أول هذه الضمانات، إيجاد ما يصل هذا القانون بنفوس الناس ويحملهم على الرضى به والانقياد له عن طواعية واختيار. ولا يحقق مثل هذه الضمانة مثل الإسلام، لأنه أقام تشريعاته على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الالتزام الاختياري بهذه التشريعات واحترامها هو مقتضى هذا الإيمان.
وللتدليل على صحة ما نقول نضرب مثلاً واحداً بشأن واقعة معينة عالجها الإسلام بتشريعه ونجح في هذه المعالجة، وعالجت هذه الواقعة بالذات القوانين الوضعية وفشلت في هذه المعالجة.من المعروف أن العرب قبل الإسلام كانوا مولعين بشرب الخمر لا يجدون فيه منقصة ولا منكراً، وكانت زقاق الخمر ودنانه في البيوت كالماء المخزون في القرب والحباب. فلما أتى الإسلام بتحريم الخمر بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ – المائدة 90 – كان لكلمة ﴿ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ قوة هائلة تفوق قوة الجيش والشرطة وما يمكن أن تستعمله أي دولة لتنفيذ أوامرها بالقوة والجبر.. لقد قام المسلمون إلى زقاق الخمر فأراقوها، وإلى دنانه فكسروها، وفطموا نفوسهم من شرب الخمر حتى غدوا وكأنهم لا يعرفون الخمر ولم يتذوقوها من قبل.. لأن أمر الله ورد ﴿ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ وأوامر الله من شأنها الاحترام والطاعة. روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ قَالَ فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } – المائدة 93 -. وأخرج ابن جرير عن قتادة عن أنس بن مالك قال: بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبي دجانة حتى مالت رءوسهم من خليط بسر وتمر، فسمعنا مناديا ينادي: إن الخمر قد حرمت. قال: لما دخل علينا داخل ولا خرج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضاً بعضنا، واغتسل بعضنا ثم خرجنا إلى المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر }.
وفي القرن العشرين أرادت الولايات المتحدة الأمريكية تخليص مواطنيها من الخمر، وقبل أن تشرع قانون تحريم الخمر، مهدت له بدعاية واسعة جداً لتهيئة النفوس إلى قبول هذا القانون، وقد استعانت بجميع أجهزة الدولة وبذوي الكفاية في هذا الباب. استعانت بالسينما ومسارح التمثيل وبالإذاعة وبنشر الكتب والرسائل والنشرات والمحاضرات والإحصائيات من قبل العلماء والأطباء والمختصين بالشؤون الاجتماعية، وقد قدر ما أنفق على هذه الدعاية بـ (65) مليون من الدولارات وكتبت تسعة آلاف صفحة في مضار الخمر ونتائجه وعواقبه. وأنفق ما يقرب من (10) عشرة ملايين دولار من أجل تنفيذ القانون. وبعد هذه الدعاية الواسعة والمبالغ المنفقة شرعت الحكومة قانون تحريم الخمر لسنة 1930م وبموجبه حرم بيع الخمور وشراؤها وصنعها وتصديرها واستيرادها. فما كانت النتيجة؟ لقد دلت الإحصائيات للمدة الواقعة بين تشريعه وبين تشرين الأول سنة 1933م أنه قتل في سبيل تنفيذ هذا القانون مائتا نفس وحبس نصف مليون شخص وغرم المخالفون له غرامات بلغت ما يقرب من أربعة ملايين دولار، وصودرت أموال بسبب مخالفته قدرت بألف مليون دولار. وكان آخر المطاف أن قامت الحكومة الأمريكية بإلغاء قانون تحريم الخمر في أواخر سنة 1933م، ولم تستطع تلك الدعايات الضخمة التي قامت بها الدولة أن توجد القاعدة التي يرتكز عليها القانون في نفوس المواطنين وبالتالي قاموا بمخالفته مما حمل الحكومة على إلغائه، لأن القانون لم يكن له سلطان على النفوس يحملها على احترامه وطاعته، ومن ثم فشل وألغي. أما كلمة ﴿فاجتنبوه﴾ التي جاء بها الإسلام في جزيرة العرب فقد أثرت أعظم التأثير وطبقت فعلاً وأريقت الخمور من قبل أصحابها وامتنعوا عنها، لا بقوة شرطي ولا بقوة جندي ولا رقيب ولكن بقوة الايمان وطاعة المسلمين لشرائع الإسلام واحترامهم لها. ولقد كان موقف الصحابة من هذا التحريم لما يحبونه ويشتهونه، يمثل أسمى ألوان الطاعة والاستجابة لأمر الله – تعالى – فعندما بلغهم تحريم الخمر أراقوا ما عندهم منها في الطرقات، بل وحطموا الأواني التي كانت توضع فيها الخمر.
– مثال ثاني: كيفية استقبال نساء المسلمين لأمر الحجاب: روى البخاري عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُوَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ }شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ ( أكيسة من صوف أو خز ) فَاخْتَمَرْنَ بِهَا. وفي تفسير ابن كثير: عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة، قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن. فقالت عائشة، رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلا وإني -والله -وما رأيت أفضلَ من نساء الأنصار أشدّ تصديقًا بكتاب الله، ولا إيمانًا بالتنزيل. لقد أنزلت سورة النور: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ }، انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابة ، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرْطها المُرَحَّل ( المزخرف الذي فيه تصاوير ) فاعتجرت به ( أي شدته على رأسها )، تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحْنَ وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح معتجرات، كأن على رؤوسهن الغربان.
الخصيصة الثانية: المثالية أو الأخلاقية:
أ – من خصائص الشريعة الإسلامية أنها تحرص على إبلاغ الإنسان أعلى مستوى ممكن من الكمال وهذه هي الأخلاقية أو المثالية. فالشريعة تختلف عن القانون في أنها تنظر إلى الإنسان من زاوية ما عليه من التزامات وواجبات، وما له من حقوق، بينما ينظر القانون إلى ما له من حقوق فقط كما أن القانون يهدف إلى استقرار المجتمع وانتظام معاملاته، بينما تهدف الشريعة علاوة على ذلك تحقق المثل الأعلى في حياة الناس. ولا عجب في ذلك فقد قال صاحب هذه الشريعة ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) مسند الشهاب القضاعي. الأخلاقية في كل شئ حتى مع الحيوان، روى مسلم عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ
ب- هذه الأخلاقية ظهرت حتى في الفتوحات الإسلامية.. يدل على ذلك ما رواه مالك في الموطأ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَ جُيُوشًا إِلَى الشَّامِ فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ أَمِيرَ رُبْعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَاعِ فَزَعَمُوا أَنَّ يَزِيدَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَنْتَ بِنَازِلٍ وَمَا أَنَا بِرَاكِبٍ إِنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ إِنَّكَ سَتَجِدُ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ– يعنى الرهبان – فَذَرْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ… وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ وَلَا تَغْلُلْ وَلَا تَجْبُنْ.
ج- قارن بين أخلاقية الشريعة في معالجة القضايا ومعالجة هذه القضايا في ظل النظم الوضعية والتي قد تكون غير أخلاقية، مثلا قضية مثل قضية المسنين والتي بدأت هيئة الأمم المتحدة عام 1982 دراسة تلك القضية حيث تتزايد احتياجاتهم الحياتية ويزاحمون الشباب في الخدمات الصحية والاجتماعية والترفيهية مع قلة مواردهم التي تعجز عن توفير احتياحاتهم. بعض الاتجاهات الغربية تعالج هذه القضية بالطريق المادي الوضعي وفق قواعد الاقتصاد من المكسب والخسارة. فمن ينادي بمبدأ الحق في إنهاء الحياة ! أو الموت الرحيم وهو استجابة الطبيب المعالج لرغبة مريضه، بإنهاء حياته نتيجة لمعاناة هذا المريض من آلام مبرّحة لايمكن تحمّلها، والميؤوس من شفائها نهائياً وقطعياً. بل وأصدرت هولندا (قانون الموت الرحيم) بعد إقراره من جميع المراجع الدستورية فغدا قانوناً يُعمل به. بعد جدل واستفتاءات ونقاش دام ثلاثين عاماً، صدر أول قانون في العالم يقونن وينظّم الموت الرحيم ويعدّه عملاً مشروعاً وفق حالات وشروط دقيقة حدّدها المشرّع. غير أن معارضي القانون اتهموا الحكومة الهولندية بأنها أصدرت هذا القانون لتخفّف من مصاريف المعالجة الطبيّة والأدوية للمواطنين. أما الإسلام فيرى أن المجتمع لا يكون إلا بشيوخه وشبابه، ورجاله ونسائه، فإن شباب اليوم هم شيوخ الغد، وكيف يحيا شاب يعرف أنه إذا ما تقدم به السن قد يطلب منه الانتحار توفيراً للمواد والأغذية !! وفي مسند الإمام أحمد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا).
د- وقوام هذه المثالية الاعتدال، ونقصد بالاعتدال عدم الإفراط والتفريط في أي شيء وإعطاء كل ذي حق حقه. يدل على ذلك قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ –الفرقان 67 -.وقوله تعالى ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ – الإسراء 29 -. والاعتدال مطلوب حتى في العبادات فلا ينبغي للمسلم أن يرهق نفسه أو يؤذي جسده، يدل على ذلك ما رواه البخارى عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي.وأيضا بحديث البخارى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أيضا – قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ مَا هَذَا الْحَبْلُ قَالُوا هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ.
الخصيصة الثالثة: الواقعية:
أ- من مزايا الشريعة الإسلامية أنها شريعة واقعية لم يمنعها ملاحظتها للمثل الأخلاقية العليا أن تراعي الواقع القائم وتشرع له ما يعالج أدواءه وما يقيه منها. إنها لم تسبح في بحار الخيال ولم تحلق في أجواء المثالية المُجنَّحة، فتفترض إنسانا لا وجود له في دنيا الناس، كما صنع أفلاطون في جمهوريته والفارابي في مدينته الفاضلة. أما شريعة الله فشرعت للإنسان كما هو، كما خلقه الله، بجسمه الأرضي، وروحه السماوي. بأشواقه الصاعدة، وغرائزه الهابطة. بدوافعه الفردية ونزعته الغيرية، بعوامل الفجور، وبواعث التقوى تصطرع في نفسه، قال تعالى ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) – الشمس 7-8 -.
ب- لهذا لم يأمر القرآن بما أمر به الإنجيل حين قال ” من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن سرق قميصك فأعطه إزارك ” فهذه مثالية قد تصلح لتربية مجموعة محدودة في مرحلة معينة كحواريى المسيح في زمنه، ولكنها لا تصلح قانوناً عاماً لدولة عالمية، في شريعة خالدة. ومن هنا جاء القرآن بإقرار معاقبة المعتدي بمثل عقوبته دون زيادة، فقرر بذلك مرتبة العدل، ولكنه فتح الباب لمن يريد الترقي إلى مرتبة الفضل والإحسان فقال ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) – الشورى 40 -. أي: أن الله – تعالى – يأمركم أنكم إذا أردتم الانتصار من الباغي فعليكم أن تقابلوا بغيه وظلمه وعدوانه بمثله بدون زيادة منكم على ذلك، كما قال – تعالى – في آية أخرى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } – النحل 126 – قال الشوكاني: ” ذكر – سبحانه – المغفرة عند الغضب في معرض المدح فقال: ” وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ” كما ذكر الانتصار على الباغي في معرض المدح – أيضاً – { والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ } لأنه التذلل لمن بغى، ليس من صفات من جعل الله له العزة، حيث قال – سبحانه – { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولكن المنافقين } فالانتصار عند البغي فضيلة، كما أن العفو عند الغضب فضيلة.قال النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء.
ج- ومن واقعية الشريعة الإسلامية أنها لم تكتف بالوازع الديني أو الأخلاقي في صيانة حقوق الناس، برغم عنايتها به وإلحاحها عليه ودعوتها إليه ولكنها مع ذلك قررت ” نظام العقوبات ” لما ينطق به الواقع أنَّ من الناس من لا يكفيه الإرشاد والتوجيه، ولا يردعه إلا عقوبة ملائمة تكفكف من شره وتزجره أن يعود لمثل جريمته، كما تزجر غيره أن يفعل مثل فعلته، وفي هذا قال الخليفة الثالث: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وقد جاءت الشريعة بنوعين من العقوبات… إحداهما: مقدرة محددة لا زيادة فيها ولا نقص، وذلك كالحدود والقصاص.
والثانية: التعزير: وهي عقوبة مفوضة إلى رأي أولي الأمر.
د – وتظهر واقعية الإسلام في أمر آخر هو إيجاد المخارج المشروعة للمسلم في أوقات الشدة والضيق، وعدم إلزامه بما كان لازماً له أو واجباً عليه، أو محرماً عليه في الاوقات العادية، فهي ليست قوانين مصمتة، وعلى هذا الأساس جاءت الرخص كلها وجاءت القواعد الفقهية “الضرورات تبيح المحظورات”، ” المشقة تجلب التيسير “، ” إذا ضاق الأمر اتسع ” لأن النفوس قد لا تقوى على الاستمرار بما يريده الإسلام في الظروف القاسية والأحوال الاضطرارية فتقع في المعصية فخفف الإسلام عنها بما شرعه من رخص ومنها إباحة أكل الميتة عند الجوع الشديد الذي يخاف فيه تلف النفس، وإباحة ترك الواجب مثل الفطر في رمضان للمريض والمسافر، وإباحة الصلاة للمريض وهو قاعد إذا كان لا يقوى على الوقوف.وبهذه المثالية والواقعية في الإسلام يستطيع المسلم أن يحقق لنفسه الكمال المقدور له بيسر واعتدال وشمول وبما يوافق الفطرة دون إرهاق ولا حرج ولا انعزال عن الحياة وأهلها.
من قواعدِ الشريعةِ التيسيرُ             في كلِ أمرٍ نابه التعسير
 هـ – ومن تيسير الإسلام على البشر: أنه راعى معهم سنة التدرج فيما يشرعه لهم، إيجاباً أو تحريماً فتجده حين فرض الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة، فرضها على مراحل ودرجات حتى انتهت إلى الصور الأخيرة. فالصلاة فرضت أول ما فرضت ركعتين ركعتين، ثم أقرت في السفر على هذا العدد، وزيدت في الحضر إلى أربع. أعني الظهر والعصر والعشاء، والصيام فرض أولا على التخيير، من شاء صام ومن شاء أفطر وفدى، أي: أطعم مسكيناً عن كل يوم يفطره، كما روى ذلك البخاري عن سلمة بن الأكوع، تفسيراً لقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، ثم أصبح الصيام فرضاً لازماً لكل صحيح مقيم لا عذر له: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). والزكاة فرضت أولاً بمكة مطلقة غير محددة ولا مقيدة بنصاب ومقادير وحول، بل تركت لضمائر المؤمنين، وحاجات الجماعة والأفراد، حتى فرضت الزكاة ذات النصب والمقادير في المدينة.والمحرمات كذلك، لم يأت تحريمها دفعة واحدة، فقد علم الله سبحانه مدى سلطانها على الأنفس، وتغلغلها في الحياة الفردية والاجتماعية. فليس من الحكمة فطام الناس عنها بأمر مباشر يصدر لهم، إنما الحكمة إعدادهم نفسياً وذهنياً لتقبلها، وأخذهم بقانون التدرج في تحريمها. حتى إذا جاء الأمر الحاسم كانوا سراعاً إلى تنفيذه قائلين: سمعنا وأطعنا.ولعل أوضح مثل معروف في ذلك هو تحريم الخمر على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي. فلقد مر تحريم الخمر بمراحل:
1-  قال تعالى ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) – البقرة 229 -.
2-  ثم نزلت الآية التي في سورة النساء -43 – { با أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ…}
3-  ثم نزلت الآية التي في سورة المائدة -90- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
والدليل على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ عُمَرُاللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ }الْآيَةَ قَالَ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ يُنَادِي أَلَا لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءًفَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.. فلما بلغ { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } قَالَ عُمَرُ انْتَهَيْنَا.
د- وهذه السنة الإلهية في رعاية التدرج، ينبغي أن تتبع في سياسة الناس، وعندما يراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة، واستئناف حياة إسلامية متكاملة. فإذا أردنا أن نقيم (مجتمعاً إسلامياً حقيقياً) فلا نتوهم أن ذلك يتحقق بجرة قلم، أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس، أو مجلس قيادة أو برلمان. إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، أعني بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية، والأخلاقية والاجتماعية. وهو نفس المنهاج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم، لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية. فقد ظل ثلاثة عشر عاماً في مكة، كانت مهمته فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن الذي يستطيع فيما بعد أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في الآفاق. ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع وتقنين، بل مرحلة تربية وتكوين. إن التدرج سنة من سنن الله في خلقه، وشرعه، فقد خلق الإنسان أطواراً: علقة، فمضغة، فعظاماً …. إلخ , وخلق الدنيا في ستة أيام، الله أعلم بكل يوم منها كم هو؟ كما أنه فرض الفرائض وحرم المحرمات على مراحل، وفق سنة التدرج، مراعاة لضعف البشر ورحمة بهم. والشريعة قد اكتملت بلا شك، ولكن تطبيقها في عصرنا يحتاج إلى تهيئة وإعداد لتحويل المجتمع إلى الالتزام الإسلامي الصحيح، بعد عصر الاغتراب والتغريب. وقد تم بعض هذا في بعض البلاد، وبقي بعض، وهو يحتاج إلى بذل الجهود، لإزالة العوائق، ومنع الهزات، وإيجاد البدائل، وتربية طلائع المنفذين الثقات، الذين يجمعون بين القوة والأمانة، واجتماعهما في الناس قليل، طالما شكا منه الأقدمون حتى قال عمر: ( اللهم إني أشكو إليك عجز الثقة وجلد الفاجر). ولهذا لا مانع من التدرج في التطبيق، رعاية لحال الناس، واتباعاً للتوجيه النبوي الكريم: ( إن الله يحب الرفق في الأمر كله )، وكما نهج ذلك الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. فقد روى المؤرخون عن عمر بن عبد العزيز: أن ابنه عبد الملك – وكان أفضل أبنائه – قال له يوماً: يا أبت: مالك لا تنفذ الأمور ؟! فوالله ما أبالي لو أن القدور فلت بي وبك في الحق. يريد الشاب التقي المتحمس من أبيه – وقد ولاه الله إمارة المؤمنين – أن يقضي على المظالم وآثار الفساد دفعة واحدة، دون تريث ولا أناة، وليكن بعد ذلك ما يكون ! فماذا كان جواب الأب الصالح، والخليفة الراشد، والفقيه المجتهد ؟ قال عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتة. يعني أنه يريد أن يسقيهم الحق جرعة جرعة، ويحملهم على طريقه خطوة خطوة.
ومرة أخرى، يدخل عليه ابنه المؤمن المتوقد حماسة وغيرة، ويقول عاتباً أو غاضباً: ( يا أمير المؤمنين: ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها، أو سنة فلم تحيها ؟ فقال أبوه: رحمك الله وجزاك من ولد خيراً ! يا بني: إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً يكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يراق في سببي محجمة من دم ! أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا، إلا وهو يميت بدعة، ويحي فيه سنة ؟. فالتدرج بهذا المعنى مقبول، وهو سنة كونية، وسنة شرعية. كل ما نؤكده هنا: ألا يكون هذا مجرد تكأة لتأجيل العمل بالشريعة، وتمويت الموضوع بمرور الزمن، باسم التدرج والتهيئة ! إنما الواجب اتباع سياسة ابن عبد العزيز: ألا يمر يوم إلا وتموت فيه بدعة، وتحى سنة، وبهذا يتحقق التدرج المطلوب. فالتدرج يعنى: تحديد الهدف، وتهيئة الخطة، وتعيين المراحل، وحشد الطاقات في خدمة الغرض المنشود. ولهذا نطالب بوضع الخطة للإمداد والتغيير، تعليمياً وإعلامياً، وثقافياً واجتماعياً، بادئين بما لا يحتاج إلى تدرج ولا تهيئة، وإنما يحتاج إلى صدق التوجه، ومعه العزيمة، وإذا صدق العزم وضح السبيل.
وليفهمو أن الشريعة عزنا              قرآننا دستورنا الربان
 ومحمد الأمي قدوتنا الذي              رسم طريق الحق بالتبيان
 إن الشريعة سنة وفريضة              وهما لدين محمد عقدان
الخصيصة الثانية: الشمول:
أ- ومن خصائص الشريعة الإسلامية أنها نظام شامل لجميع شؤون الحياة وسلوك الإنسان. وشمول الشريعة لشئون الحياة وسلوك الإنسان لا يقبل الاستثناء ولا التخصيص، فهو شمول تام بكل معاني كلمة الشمول، وهذا بخلاف المبادئ والنظم البشرية فإن الواحد منها له دائرته الخاصة التي ينظم شؤونها، ولا شأن له فيما عدا ذلك. وعلى هذا فلا يمكن للمسلم أن يقول إن هذا المجال لي, أنظم أموري كما أشاء بمعزل عن تنظيم الإسلام، قال تعالى (… أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) – البقرة 85 -.توبيخ وتقريع من الله لليهود على تفريقهم بين أحكام الله. والمعنى: أفتتبعون أحكام كتابكم في فداء الأسرى، ولا تتبعونها في نهيكم عن قتال إخوانكم وإخراجهم من ديارهم؟ فالاستفهام للإِنكار والتوبيخ على التفريق بين أحكامه – تعالى – بالإِيمان ببعضها والكفر بالبعض الآخر.وبعض الكتاب الذي آمنوا به هو ما حرم عليهم من ترك الأسرى في الأيدي عدوهم، وبعضه الذي كفروا به ما حرم عليهم من القتل والإِخراج من الديار، فالإِنكار منصب على جمعهم بين الكفر والإِيمان.
قال فضيلة المرحوم للشيخ محمد الخضر حسين: ” وإنما سمى – سبحانه – عصيانهم بالقتل والإِخراج من الديار كفراً؛ لأن من عصى أمر الله – تعالى – بحكم عملي معتقداً أن الحكمة والصلاح فيما فعله، بحيث يتعاطاه دون أن يكون في قلبه أثر من التحرج، ودون أن يأخذه ندم وحزن من أجل ما ارتكب. فقد خرج بهذه الحالة النفسية عن سبيل المؤمنين، وفي الآية الكريمة دليل واضح على أن الذي يؤمن ببعض ما تقرر في الدين بالدليل القاطع ويكفر ببعضه، يدخل في زمرة الكافرين لأن الإِيمان كل لا يتجزأ “.
ثم بين – سبحانه – العقاب الدنيوي والأخرى الذي استحقه أولئك المفرقون لأحكامه فقال تعالى: { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }.اهـ
فليس في الإسلام ” دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ” بل ” ما لقيصر لله وما لله لله “.
ب- وأحكام الإسلام بالنسبة لما تتعلق به تنقسم إلى الأقسام الآتية:
أولاً: أحكام العقيدة الإسلامية، وهي تتعلق بأمور العقيدة كالإيمان بالله واليوم الآخر وهذه هي الأمور الاعتقادية.
ثانياً: أحكام الأخلاق، وهي المتعلقة بما يجب أن يتحلى به المسلم، وما يجب أن يتخلى عنه كوجوب الصدق وحرمة الكذب.
ثالثاً: أحكام تتعلق بتنظيم علاقة الإنسان بخالقه، كالصلاة والصيام وغيرها من العبادات.
رابعاً: أحكام تتعلق بتنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم وهذه على أنواع:
أ‌ ) أحكام الأسرة من نكاح وطلاق وإرث ونفقة.. الخ وتسمى في الاصطلاح الحديث بأحكام الأسرة أو قانون الأحوال الشخصية.
ب‌) أحكام تتعلق بعلاقات الأفراد ومعاملاتهم كالبيع والإجارة والرهن والكفالة، وهي التي تسمى في الاصطلاح الحديث بأحكام المعاملات المالية أو بالقانون المدني.
ت‌) أحكام تتعلق بالقضاء والدعوى وأصول الحكم والشهادة واليمين والبينات وهي تدخل فيما يسمى اليوم بقانون المرافعات.
ث‌) أحكام تتعلق بمعاملات الأجانب غير المسلمين عند دخولهم إلى إقليم الدولة الإسلامية، والحقوق التي يتمتعون بها والتكاليف التي يلتزمون بها، وهذه الأحكام تدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الدولي الخاص.
ج‌) أحكام تتعلق بتنظيم علاقات الدولة الإسلامية بالدول الأخرى في السلم والحرب، وتدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الدولي العام.
ح‌) أحكام تتعلق بنظام الحكم وقواعده، وكيفية اختيار رئيس الدولة، وشكل الحكومة، وعلاقات الأفراد بها، وحقوقهم إزاءها، وهي تدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الدستوري.
خ‌) أحكام تتعلق بموارد الدولة الإسلامية ومصارفها، وتنظيم العلاقات المالية بين الأفراد والدولة، وبين الأغنياء والفقراء، وهي تدخل في القانون المالي بمختلف فروعه.
د‌)  أحكام تتعلق بتحديد علاقة الفرد بالدولة من جهة الأفعال المنهي عنها “الجرائم ومقدار عقوبة كل جريمة”.. وهذه تدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الجنائي ويلحق بهذه الأحكام الإجراءات التي تتبع في تحقيق الجرائم وإنزال العقوبات بالمجرمين وكيفية تنفيذها، وهي تدخل فيما يسمى اليوم بقانون تحقيق الجنايات أو بقانون المرافعات الجزائية.
راية الإسلام عودي
 رَايَةَ الإِسْلاَمِ يَا خَضْرَاءُ عُودِي                 وَانْشُرِي هَدْيَكِ في رَحْبِ الوُجُودِ
 إِنَّ في هَدْيِكِ تَحْطِيمَ القُيُودِ                       وَبُلُوغَاً لِلمَعَالي مِنْ جَدِيدِ
رَايَةَ التَّوْحِيدِ يَا ذَاتَ البَهَاءِ                       غَصَّتِ الأَرْضُ بِرِجْسِ الأَدْعِيَاءِ
 فَابْعَثي في الأَرْضِ آياتِ السَّمَاءِ                وَاخْفُقي بِالعَدْلِ فِينَا وَالإِبَاءِ
 رَايَةَ القرآنِ يَا حَتْفَ المُغِيرِ                     ضَجَّتِ الآفَاقُ بِاللَّيْلِ الضَّرِيرِ
 وَتَوَارَى ضَارِعاً صَوْتُ الضَّمِيرِ               فَاكْتُبِي صُبْحَكِ وَهَّاجَ السُّطُورِ
 رَايَةَ العُبَّادِ وَالزُّهَّادِ هَاتي                        مِنْ كِتَابِ الدَّهْرِ أَحْلَى الذِّكْرَيَاتِ
 حَدِّثِينَا عَنْ مَغَاوِيرٍ كُمَاةِ                         جَلْجَلُوا كَالْوَيْلِ في وَجْهِ الطُّغَاةِ
 رَايَةَ الأَحْرَارِ يَا رَمْزَ السِّيَادَة                    أَنْتِ مَنْ عَرَّفْتِنَا مَعْنَى الشَّهَادَة
 فَانْثَنَيْنَا لا نُبَالي بِالإِبَادَة                            زَحْفُنَا في نُصْرَةِ الحَقِّ عِبَادَة
 رَايَةَ الإِسْلاَمِ يَا خَضْرَاءُ عُودِي                 أنْذِرِي بِالهَوْلِ فُجَّارَ اليَهُودِ
 وَابْعَثي في الأَرْضِ أَمْجَادَ الجُدُودِ               ذَائِعَاتٍ في الوَرَى عِطْرَ الشَّهِيدِ
من المراجع:
– مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية…….. د. يوسف القرضاوي
– ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده…………. د. يوسف القرضاوي
– أصول الدعوة…………………….د. عبد الكريم زيدان
– تاريخ التشريع الإسلامي……………د. علي علي غازي تفاحة
– تاريخ التشريع الإسلامي…………..د. محمد أبو زيد، د. مصطفي فرج
– فهم الإسلام في ظلال الأصول العشرين..الشيخ / جمعة أمين
– الثلاثون في القضايا الفقهية الاجتماعية المعاصرة… د. سعد الدين هلالي
——————————————————————————–
 [1] العروة هي الحَبْل الذي يُجعل في عُنُق البهيمة أو يَدِها يُمسِكها، فاسْتعارها للإسلام، يعني ما يَشدُّ به المُسلم نفْسَه من عُرَى الإسلام: أي حُدُوده وأحكامه وأومِره ونواهيه
 [2] قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعُبِّيَّة الْكِبْر وَالنَّخْوَة وَأَصْله مِنْ الْعَبّ وَهُوَ الثِّقَل يُقَال عِبِّيَّة وَعُبِّيَّة بِضَمِّ الْعَيْن وَكَسْرهَا

About hicham

I’m a Pro Blogger. Having my 3+ website. I got engineering degree in computer science engineering. But, I am more appreciated to online business. Now, I ‘m full time blogger and enjoying my journey as well. I started my online carrier since 2018, April. After, research more I got the blogging. Now, I working on Google Ads Network and Affiliate Marketing also.

0 Comments :

Post a Comment